شئنا أم أبينا أصبحت الواسطة جزءا من ثقافة هذا المجتمع ، وأبرز سماته الأساسية ، وإحدى مسلماته الفكرية .. فبدون واسطة قليلا ما تنجز مصلحة في الدوائر الحكومية ، ونادرا ما يتبوأ شاب كفؤ وظيفة ذات حيثية ، حيث لم يعد للأهلية أو الصلاحية أية أهمية ، بعدما توقف العمل بمبدأ الكفاءة كمعيار وحيد للتعيينات ، وانتهى تماما بنهاية عهد الستينات . تكمن خطورة
الواسطة في أنها تؤدي إلى تكريس التمييز بلا مسوغ قانوني أو سبب مشروع .. كما أن التمييز بين أبناء الوطن الواحد مخالف للدستور ، ويعد جريمة يعاقب عليها القانون وهي من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم .. لذلك تعتبر الواسطة والمحسوبية من أبرز منابع الفساد الإداري التي عانى منها الشعب المصري وما زال يعاني خصوصا في تعيينات الجهات السيادية المعنية بتطبيق القانون .. إذ كيف لمن يتم تعيينه بالمخالفة لمواد الدستور والقانون أن يحترم الدستور أو يحرص على تطبيق صحيح القانون ؟ وكيف لمن ينتهك مبدأ تكافؤ الفرص أن يقيم وزنا لقيم الحق والإنصاف والعدل والمساواة ؟ .. وماذا ننتظر ممن لا يفهم لغة الحياد سوى الانحياز الكامل للاستثناءات الرخيصة على حساب القواعد العريضة ؟ . أما أكثر منابع الفساد المالي خسة وأشدها وضاعة ودونية فهي الاحتكار الذي ينتهجه الوسطاء وأعني بالوسطاء بعض شركات الاستيراد والتصدير التي تمثل دوائر مغلقة على مساهميها من اللصوص وأصحاب الحظوة ومعدومي الضمير التي كانت على مدى ثلاثين عاما تحتكر قوت الشعب ، وتعبث بحياته ، وتتحكم في مصيره وذلك باستيراد المواد الغذائية الأساسية الفاسدة كالقمح المملوء بالحشرات الضارة والمشبع بالمواد الكيماوية ، واللحوم المنتهية الصلاحية .. من الدول المنتجة لها بأسعار زهيدة لتدخل هذه المواد الغذائية التي لا غنى عنها بلا وازع من دين أو ضمير إلى بطون المصريين .. بعدما تتسلمها الحكومة المصرية التي أصبح في غفلة من الزمن أبناء وزوجات وأصهار وأصدقاء كبار مسئوليها بقدرة قادر شركاء في هذه الشركات ليحققوا من وراء تلك الصفقات المشبوهة أرباحا خرافية في أوقات قياسية .. نعم سطا ذوي السلطة وأصحاب المال على خيرات البلاد ، وقسموها فيما بينهم ، ولم يتركوا لبقية هذا الشعب المغلوب على أمره سوى الفتات الذي يتزاحمون للحصول على شيء منه ، ويتصارعون من أجله . ولأن ” حاميها حراميها ” فليس غريبا أن تمر هذه الصفقات المحرمة على كافة الجهات الرقابية في الدولة دون أن يستوقفها أحد والمدهش أن شركات الاستيراد هذه لا تفعل شيئا سوى تقديم بعض السندات البنكية للدول المصدرة وفي نظير ذلك تحتكر هذه العصابات السوق وتحصد ملايين الجنيهات في عملية استغفال كبرى لهذا الشعب دامت عدة عقود . أما البداية الحقيقية للفساد المالي والإداري والأخلاقي أيضا فقد بدأت مع قرار الانفتاح الذي قذف بهذا الشعب العظيم إلى هاوية التبعية ، وقضى على الصناعة الوطنية ، فانسحبت الدولة من السوق ، ورفعت يدها تماما عن مراقبته ، وتخلت عن مواطنيها ليصبحوا فريسة سهلة في أيدي من لا ضمير لهم ولا ذمة من الوسطاء الذين توحشوا وازدادوا شراسة على شراستهم بعدما انضم إلي صفوفهم أبناء وأصهار وأصدقاء اللصوص الكبار .. مجسدين بذلك أبشع صور استغلال النفوذ ، والظلم ، والاحتكار . والغريب العجيب أن الدولة المصرية بعد ثورتين شعبيتين لم تفتح التحقيق في قضايا الفساد من هذه النوعية حتى الآن !! .. فإذا كان الديكتاتور الأسبق وأبناؤه وحاشيته وأركان حكمه كانوا ينتفعون من الفساد ، ويحمون الفاسدين .. فمن ينتفع الآن من الفساد ؟ .. ومن يحمي الفاسدين ؟ . لن تلتئم جراح هذا الوطن ما لم تطهر من الدنس ، وتنظف من العفن .. ذلك لأن فتح ملفات قضايا صفقات القمح الفاسد ، واللحوم منتهية الصلاحية ، ومحاكمة اللصوص والفاسدين ، واسترداد أموال الدولة المنهوبة في الداخل ، واستعادة الأموال المهربة إلى الخارج ، والضرب بيد من حديد على رأس كل من يخرج عن الخط المستقيم .. هي في الأساس مطالب جميع المصريين .. لكن يجب علينا جميعا ألا ننسى أن المشكلة الحقيقية في قضايا فساد أركان حكم النظام الأسبق الفاسد البائد وحاشيته ومحاسيبه وأزلامه تكمن في أن الفاسدين هم الذين أصدروا القرارات ، وسنوا القوانين ، وصاغوا فيها من الثغرات ما يكفيهم للإفلات من المحاكمات . بالرغم من الحنق الذي يشعر به المواطن المصري من بعض قرارات هذه الحكومة والحكومات التي سبقتها قبل الثورتين وبعدهما .. لكنه يثق في الدولة ثقة عمياء ، ويطمئن إلى ما تقوم به من انجازات ، وما تقدمه من خدمات ، وما توفره من مواد استهلاكية خاصة في الآونة الأخيرة بعدما نزلت الدولة بكل ثقلها لتقوم باستيراد السلع الأساسية ، وتوزيعها للمستهلك مباشرة من خلال المجمعات الاستهلاكية بأسعار تنافسية ، وتقوم في الوقت نفسه بفتح نوافذ جديدة للتوزيع في جميع أرجاء الجمهورية . عادت الدولة بعد غياب طويل للقيام بدورها الوطني العظيم في توفير المواد الغذائية الأساسية بأسعار في متناول الجميع فلاقت رضا شعبي واسع ، وإقبال جماهيري كبير .. نعم عادت الدولة لتضبط الأسعار ، وتمنع الاحتكار ، وتقضي على جشع التجار ، وتصفع الوسطاء ” شركات الاستيراد ” على وجوههم ، وتقلص دورهم .. نعم عادت الدولة لتحدث التوازن المطلوب بين مقومات الاستهلاك الشعبي ألا وهي الحقل والمصنع والمنتج المحلي ، وتعطي درسا لرجال المال والأعمال وقطاعهم الخاص الذي فقد الإحساس بمعاناة الناس الذين يكملون عشائهم نوما في بلد وصفه الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل بـ ” خزائن الأرض ” صدق الله العظيم .

التعليقات