ونكمل الجزء الخامس مع حق الجار، وقد توقفنا مع أذى الجار، ومن الأذى هو وضع القاذورات في طريقه ومضايقته فيها، وتسليط الزوجة أو الأولاد لإيذائه أو إيذاء أهل بيته، وإزعاجه بالأصوات المؤذية من أجهزة المسجل وغيرها، ومن الأذى أيضا هو هجره وقطعه، وحسده في نفسه أو زوجته وأولاده، أو في وسائل راحته، وسعة دنياه، ومن الأذى أيضا هو احتقاره والسخرية منه، بمأكله أو مشربه، أو ملبسه أو مسكنه، أو خَلقه أو خُلقه، ومن الأذى أيضا هو كشف أسراره، والبحث عن عيوبه، والفرح بزلاته ومصائبه، فالجار أقرب الناس إلى جاره و أعرفهم بأخباره، فمن اللؤم والحرمة كشف خبره وهتك سره، والجار الصالح لا يتتبع عثرات جاره، بل يسترها، ولا يفرح لهفواته بل يحزن إن وصل علمه إليها، فإن إيذاء الجيران ذنب كبير يذهب من الإيمان جزء كبيرا، وإذا ذهب كمال الإيمان تعرض صاحبه للعقوبات، وتخلى الله تعالى عن عونه ومعيته له، فقال النبي الكريم صلى الله عليه و سلم” والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ” قيل ومن يا رسول الله؟ قال “الذي لا يأمن جاره بوائقه” فانظروا إلى هذا التكرار في نفي الإيمان عن الجار المؤذى، بل أعظم من ذلك أن الجار المؤذي متوّعد بعدم دخول الجنة، إذا استمر على إيذائه، أو استحل ذلك، ومات على هذه الحالة السيئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه” والبوائق هى الشرور، فاتقى أيها الجار في جيرانك، واحذر الأذية، فإنها إلى النار مطية، ويُروى أن مالك بن دينار رحمه الله.
كان له جار يهودي، فحول اليهودي مستحمه إلى جدار البيت الذي فيه مالك، وكان الجدار متهدما، فكانت تدخل منه النجاسة، ومالك ينظف البيت كل يوم، ولم يقل شيئا، وأقام على ذلك مدة وهو صابر على الأذى، فضاق صدر اليهودي من كثرة صبره على هذه المشقة، فقال له يا مالك، آذيتك كثيرا وأنت صابر، ولم تخبرني، فقال مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيُورّثه” فندم اليهودي وأسلم، وإن من النتائج والثمرات التي تترتب على مراعاة حق الجار، أنها سبب في تعمير الديار لما يحس به المرء من راحة البال بجوار جاره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “إنه من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحُسن الخلق وحُسن الجوار يعمُران الديار، ويزيدان في الأعمار” وأيضا من ثمرات مراعاة حق الجار هو أن يقبل الله عز وجل شهادة جيرانه في حقه بالخير، ويغفر له ما لا يعلمون وفي ذلك روى أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال “ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين، إلاَّ قال قد قبِلت فيه علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون” وأيضا من ثمرات مراعاة حق الجار أنها سبب رفع منزلته في الدنيا، لأن الإحسان إلى الجار والكف عن أذيته من مكارم الأخلاق التي تعد شرطا في المروءة، وأيضا من ثمرات مراعاة حق الجار هو أنها سبب رفع منزلته عند الله عز وجل، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
“خير الأصحاب عند الله عز وجل خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره” وأيضا من ثمرات مراعاة حق الجار هو أنها سبب سعادة المرء، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أربع من السعادة، المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء” فإن حقوق الجار انسحقت في هذه الأزمان عند كثير من الناس، فعمّ أذى الجيران، وفشت الخصومات، وقامت المكائد والشتائم والسخائم بشتى الألوان والأشكال، وإن هناك من الجيران هو جار سوء كشف على محارم جاره، آذاه بفعاله وكلامه، أرسل أبناؤه لمكيدة الجار وضره، لا يعرف الوداد والإحسان ولا حق الجار والإخوان، ونسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه” رواه البخارى ومسلم، وبوائقه هى شروره وأذاه، فإننا نشاهد زمنا كثرت خطوبه، واشتدت نكباته، غابت الأخلاق، وانعدمت المروءة، وقلّ الوفاء والشهامة والمعروف، يود المسلم بذل نفائس الأشياء ليظفر بجار مسلم صالح، يُدرك معروفه, ويرى خيره، ويأمن على محارمه ويعينه على طاعة الله عز وجل، وإن من رغد العيش وطيب الحياة، وتمام السعادة؛ حصول الجار الصالح المبارك في هذه الأيام، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء” رواه ابن حبان، فاتقوا الله واحرصوا على تنفيذ وصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمراعاة حقوق الجيران.
وترفعوا عن كل ما يؤذي الجيران ويضرهم، واعلموا أن من السعادة أن يكون الجار صالحا، فكونوا ذلك الجار الذي يحقق السعادة لجيرانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “أربع من السعادة المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق” وإن من التطبيق العملى هو أن تبدأ جارك بالسلام, عده في مرضه, عزه في مصيبته, شاركه في الفرح, اصفح عن زلاته, لا تتطلع لعورته, إن استقرضك فأقرضه, وإن استغاثتك فأغثه, وإن استنصرك فانصره، واحرص على زيارة جارك والسؤال عليه بشكل دورى، وبهذه الأعمال نحيي سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما يقول من أتاه أمر يسره أو يكرهه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسره قال” الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات” وإذا أتاه أمر يكرهه قال “الحمد لله على كل حال” فلقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في ديننا حرمة مصونة، وحقوق مرعية، فإن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد ألقت بظلالها على حياتهم، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرا من الحقوق والمُثل، فتباعدت القلوب، وتنافرت النفوس، حتى رأينا من عق أباه، وقطع أخاه، وهجر جاره، ورأينا كذلك جارين في حي واحد، بل في بناية واحدة، يتجاوران سنوات عديدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره، ولا يتفقد أحواله خلال هذه المدة، وقد يسافر الجار، أو يمرض، أو يحزن، أو يفرح، وجاره لم يشعر بذلك.
ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدما بين الجيران، والعداء ظاهرا بينهم بالقول أو الفعل، فضيعت وللأسف الحقوق، وقام بين الناس سوق القطيعة والعقوق، إلا من رحم الله عز وجل، ولا بد لتدارك ذلك من وقفة نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل من خلالها على تلمس حاجات جيراننا، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، فإن جملة ما يحق لجارك عليك أن تسلم عليه إذا لقيته، وإن مرض عُدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه برائحة قدرك، إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة، فأهدى له، فإن لم تفعل، فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، وإن جماع حقوق الجار على جاره هى فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم” لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه، ما يحب لنفسه” رواه مسلم، فاتقوا الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، يُحسن الله عز وجل إليكم، واصبروا على هفوات الجار، يتجاوز الله تعالى عن هفواتكم، فإن مما ينفع الإنسان قبل سكنى الدار أن يختار الجار، ومن أعظم السعادة أن يوفق المسلم لجار صالح، فقد قال عليه الصلاة والسلام ” من سعادة المرء الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع” ولقد قال بعض العلماء، لقد اختارت زوجة فرعون المؤمنة آسية بنت مزاحم عليها السلام الجار قبل الدار، كما فى قول الله تعالى كما جاء فى سورة التحريم.
” وضرب الله مثلا للذين آمنوا إمرأة فرعون إذ قالت رب ابنى لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين” فإذا ابتلي الإنسان بجار سوء يؤذيه فعليه أن لا يرد الإساءة بمثلها، بل يردها بالصبر والعفو، والإحسان وبذل المعروف، ويروى أن رجلا جاء ابن مسعود رضي الله عنه فقال “إن لي جارا يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، فقال اذهب، فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه” فإن الجوار الذي تعارف عليه الناس هو الجوار في المنزل الذي يعيش فيه الإنسان فحسب، وهذا مفهوم قاصر، فإن الجوار العام يشمل من يجاورك في دارك، ومن يجاورك في العمل أو المتجر أو المسجد أو الطريق، وكل من يليك في البلدة التي تعيش فيها وما يجاورها، والدولة المسلمة وما يجاورها، ويعتبر الجوار بين الدول مثل الجوار بين الأفراد حيث يطلب فيه الإحسان وعدم الاعتداء، وما قامت الحروب بين الدول المتجاورة إلا بسبب انتهاك حقوق الجوار، وإن للجار على جاره حقوقا يجب الوفاء بها، وعدم التقصير فيها والتماطلِ في أدائها، ويتفاوت الجيران في استحقاق هذه الحقوق زيادة ونقصانا، لاختلاف الروابط والعلاقات الزائدة على هذه الرابطة، فإن من الجيران من له حق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له ثلاثة حقوق، فالأول هو الجار الكافر، والثاني هو الجار المسلم الذي ليس من الأقارب، والثالث هو الجار المسلم القريب، وإن أداء هذه الحقوق لا يرتبط بصلاح الجار وعدم صلاحه، ولذلك تؤدى هذه الحقوق لجميع الجيران، فالجار يشمل الجار المسلم والكافر، والعابد والفاسق.
والصديق والعدو، والبلدي والغريب، والنافع والضار، والقريب والأجنبى، وللجوار مراتب فليؤدى لكل جار حقه، وإن من حقوق الجار على جاره، هو حمايته من كل سوء يعرض له، والدفاع عنه، وحفظه في أهله وماله حال غيبته، والتضحية من أجله، في حدود المقدور عليه، ما عدا غير المستطاع، وهذا الحق إن كان من حق المسلم على المسلم، فالجار من أحق الناس به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” فمعنى لا يسلمه أي لا يخذله، ولا يتركه لعدوه، بل ينصره وينجده، وهذا الصنيع الشجاع يدل على شرف الجار المُعين، وعلو همته ونجدته، وكرم شيمه وسمو أخلاقه، وقد كان هذا الخلق النبيل فخرا وشرفا يفتخر به العربي في الجاهلية والإسلام، وإن هذا الحق الكبير عند ذوي النفوس العلية، والخصال الزكية، لا يسقط بالجفاء والأذية، والفعال غير الرضية، بل يبقى ليؤدى، ولعله سيكون سببا لهداية ذلك الجار البعيد عن إحسان الجوار، وتغيير أسلوبه المعوج، وكذلك الإحسان إليه بكل ما يستطاع من وجوه الإحسان القولية والفعلية، فلا يكفي الجار أن يسلم من الأذى، وإنما يضاف إليه الإحسان وإيصال المعروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره” وإن من وجوه الإحسان إلى الجار هو تهنئته عند فرحه، وتعزيته عند مصيبته، وعيادته عند مرضه، وبداءته بالسلام والبشاشة في وجهه، والإحسان إلى أهله وأولاده، وتفقد أحواله، وإرشاده إلى ما ينفعه في أمر دنياه و دينه.
التعليقات