لقد مر ذلك الشهر المبارك وانقضى رمضان وولى عنا، فوا حزناه على ذلك الشهر الذى تولى، ووا أسفى على رمضان الذى انقضى، ولكن السعيد من كان قد استودعه الأعمال الصالحة، والشقى من ضيع حق رمضان، فإن فى مرور الأيام مدكر، وفى تصرم الآجال عبر وأى عبر، فإن الأيام تمضي جميعا، والأعمار تطوى سريعا، وإنما أنت يا ابن آدم أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، وأعمالك فيه مرصودة لك، إما فى صحيفة حسناتك أو سيئاتك، وصدق القائل نسير إلى الآجال فى كل لحظة، وأعمارنا تطوى وهن مراحل ترحّل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل يخيل للواحد منا أنه يزيد مع الأيام ويكبر، وهو فى الواقع يتلاشى ويصغر، والأيام تهدم عمره من حيث يشعر أو لا يشعر، لأن عمره محدود، وأنفاسه معدودة، وكل لحظة تمر عليه فإنما تذهب من أجله، وتنقص من عمره، وتبعده من الدنيا بقدر ما تقربه من الآخرة وما المرء إلا راكب ظهر عمره، على سفر يفنيه فى اليوم والشهر يبيت.
ويضحى كل يوم وليلة بعيدا عن الدنيا، قريبا إلـى القبر وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في طاعة ربك، واستودعته عملا صالحا تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع في مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فإذا كنا ودعنا رمضان فإن المؤمن لن يودع الطاعة والعبادة، بل سيوثق العهد مع ربه، ويقوى الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقا، أما أولئك الذين ينقضون عهد الله، فبئس القوم لا يعرفون الله إلا فى رمضان، فلا قيمة لطاعة تؤدى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، فأين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتركت الصلاة، وإن توبة المقصر في صيامه وصلاته، هو الاستغفار عما مضى من الإخلال والتفريط في حق الله تعالى، وحق ذلك الشهر الذى انقضى ولم يستفد منه كما ينبغى، فالاستغفار هو الدعاء بالمغفرة، وقد جاء فى حديث أبي هريرة رضى الله عنه” يغفر فيه إلا لمن أبى ” قالوا ومن يأبى يا أبا هريرة؟ من الذي أبى قال “الذي يأبى أن يستغفر الله” وقال الحسن رحمه الله.
“أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة” وقال واحد ممن مضى لولده “يا بني عود لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا” وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى فى سورة محمد “فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك” فعطف هذا على هذا مبينا أهميته، فقال إبليس عليه لعنة الله أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة، والحج، وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت مجالس ذكر كان كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لهو كانت كفارة لها كان كفارة لما حصل فيها وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار، فقيل كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة وهى صدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهرا للصائم من اللهو والرفث، والاستغفار يرفع ما حصل من الخروق في الصيام باللهو والرفث، وقال بعض أهل العلم “إن صدقة الفطر للصائم كسجدتى السهو”
وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم” قَال تعالى فى سورة الأعراف” ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” وقولوا كما قال نبى الله نوح عليه السلام كما جاء فى سورة هود” وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين” وقولوا كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام كما جاء فى سورة الشعراء ” والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين” وقولوا كما قال نبى الله موسى عليه السلام كما جاء فى سورة القصص ” رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى ” وقولوا كما قال نبى الله ذو النون عليه السلام كما جاء فى سورة الأنبياء ” لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين” فإن صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم تخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع، فكان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، وإذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم.
فكيف حال المسيئين، وإن أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والتوبة حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه عن المعصية زالت، ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود، وباب القبول عنه مسدود، وصومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟ فالمهم إذن أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر، لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا إسرافنا وتفريطنا، وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه، وقال رجل للحسن البصرى يا أبا سعيد إنى أبِيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعدّ طهورى، فما بالى لا أقوم ؟ فقال الحسن ذنوبك قيدتك” وقال رحمه الله إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار، وقال الفضيل بن عياض إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فأعلم أنك محروم مكبّل، كبلتك خطيئتك وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى، وتجعله قادرا على التغلب على مغريات الحياة الفانية.
وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت العيون وتقلب النوام على الفرش ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى “أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب” لقد مضى شهر رمضان وقلوب المسلمين على فراقه حزينة، مضى رمضان ليكون شاهدا للمؤمن بطاعته وصالح عمله وعبادته وإحسانه، وشاهدا على المقصر بتقصيره وتفريطه وغفلته وعصيانه، أحسن في رمضان أقوام ففازوا وسبقوا، وأساء فيه آخرون فرجعوا بالخيبة والخسران، فمن كانت حاله بعد رمضان أحسن من حاله منها قبله، مقبلا على الخير، حريصا على الطاعة، مواظبا على الجمع والجماعات، مفارقا للمعاصي والسيئات، فهذه أمارة قبول عمله إن شاء الله تعالى، ومن كانت حاله بعد رمضان كحاله قبلها فهو وإن أقبل على الله في رمضان إلا أنه سرعان ما نكص على عقبه.
ونقض ما أبرم مع ربه من عهود ومواثيق، فتراه يهجر الطاعات، ويضيع الصلوات، ويتبع الشهوات، ولا يصون سمعه وبصره وجوارحه عن المحرمات، فليعلم هذا وأمثاله أن رب الشهور واحد، وهو في كل الأزمان مطلع على أعمال عباده ومشاهد، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، فكنتم فى شهر الخير والبركة، تصومون نهاره، وتقومون من ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات طمعا فى ثوابه، وخوفا من عقابه، ثم انتهت تلك الأيام وانقضت تلك الليالى وكأنها طيف خيال، ولقد قطعتم بتلك الليالي والأيام مرحلة من حياتكم لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، وهكذا كل أيام العمر، مراحل تقطعونها يوما بعد يوم، وأنتم تسيرون في طريق الآخرة، فهى تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم، وعن فضالة بن عبيد قال ” لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلى من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول “إنما يتقبل الله من المتقين”
التعليقات