ونكمل الجزء الثالث مع ماذا بعد رمضان؟ وقد توقفنا عند الإستقامة، وكان الحسن يقول “اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة” وقال أبو العالية” ثم استقاموا” أى أخلصوا له العمل والدين، وقيل أن رجلا قال يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال ” قل آمنت بالله، ثم استقم ” قلت فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه” رواه النسائى، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به قال ” قل ربي الله، ثم استقم ” قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه، ثم قال ” هذا ” رواه الترمذي وابن ماجه، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال ” قل آمنت بالله ، ثم استقم ” وقوله تعالى ” تتنزل عليهم الملائكة” وهو يعني عند الموت قائلين “ألا تخافوا” أى مما تقدمون عليه من أمر الآخرة ” ولا تحزنوا” أى على ما خلفتموه من أمر الدنيا، من ولد وأهل، ومال أو دين ، فإنا نخلفكم فيه ”
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، وإن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان ” وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم، وعن جعفر بن سليمان قال سمعت ثابت قرأ سورة ” حم السجدة ” حتى بلغ قول الله تعالى “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة” فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره ، يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له لا تخف ولا تحزن “وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” قال فيؤمن الله خوفه، ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله، ولما كان يعمل له في الدنيا، وقال زيد بن أسلم يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث، وقوله تعالى ” نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة” أى تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم، أى قرناءكم في الحياة الدنيا.
نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم، وقوله تعالى ” ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم” أى في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون “ولكم فيها ما تدعون” أى مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم ، أى كما اخترتم، وقوله تعالى” نزلا من غفور رحيم” أى ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم، رحيم بكم رءوف، حيث غفر، وستر ورحم ولطف، فى رمضان يتسابق المسلمون إلى الطاعات وأعمال الخير، فإذا ما انتهى الشهر تراخى البعض عن العبادة، وعاد إلى سابق عهده من الذنوب والمعاصي، فما واجب المسلم بعد رمضان حتى يستفيد من صيامه؟ وما علامات قبول الصيام؟ ويؤكد علماء الدين أن حال العبد بعد رمضان مؤشر يعكس درجة قبول الصيام، وتأثيره فى صاحبه، ويشددون على ضرورة الاستمساك بالحالة التى كان عليها فى رمضان.
وعدم التهاون فى أداء العبادات، بحجة أن الشهر قد انقضى، فإذا كان رمضان قد انتهى فأعمال الخير والبر مستمرة طوال العام، فيجب على كل مسلم الاستمرار والمداومة على أداء العبادات وطاعة الله فى كل وقت، فقد قال تعالى “إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا” وقال النبى صلى الله عليه وسلم “أحب الأعمال الى الله أدومها وإن قل” فالمسلم العاقل هو الذى يحقق المنافسة والمسابقة والمسارعة فى الخيرات، فقال تعالى “فاستبقوا الخيرات” فحال المسلمين أنهم دائما فى جهاد روحي، ويتقلبون من مقامات “إياك نعبد وإياك نستعين” وأثر ذلك بينه القرآن الكريم فى قوله تعالي “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين” فالذين وفقهم الله تعالى فى رمضان بالصلاة والقيام وتلاوة القرآن يجب عليهم الاستمرار على ذلك، ليرتفع رصيدهم الإيمانى عند الله عز وجل، الذى قال “وما كان الله ليضيع إيمانكم” وعن سعيد بن المسيب رضى الله عنه أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة نسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة.
فقال سعيد أوفيها سوق ؟ قال نعم، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها، نزلوا بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة في أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة وتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب ومنابر من فضة، ويجلس فيه أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور، ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا، وقال أبو هريرة رضى الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال ” نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ ” قلنا لا، قال صلى الله عليه وسلم” فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة، حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان، أتذكر يوم عملت كذا وكذا ؟ يذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول أى رب، أفلم تغفر لي ؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه.
قال فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ” قال ثم يقول ربنا عز وجل “قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، وخذوا ما اشتهيتم ” قال” فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب، قال فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيه شيء ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا ” قال ” فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة، فيلقى من هو دونه وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا، فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبنا، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به ” وأن من علامات قبول صيام العبد أن تكون أحواله العبادية والسلوكية بعد رمضان أفضل مما كان من قبله.
بالإضافة إلى المسارعة والإقبال على الطاعات والقربات والنوافل، فالنفس التى تعودت الصبر والعفو والتسامح ابتغاء مرضاة الله، عليها أن تداوم على ذلك، ومن اعتاد البذل والعطاء فى رمضان عليه ألا يحرم نفسه هذا الفضل العظيم بعد رمضان، لاسيما أننا مازلنا فى جائحة وفى شدة، وفى الشدائد تعظم الأعمال وتعظم الأجور عن غيرها من الأوقات، وأن الصيام عبادة روحية ونفسية فرضها الله سبحانه وتعالى على العباد بغية صيانة الانسان والشعور بآلام الغير والتجديد الدائم لخاصية التقوى فختمت آيات الصوم بقوله تعالي “لعلكم تتقون” أى تجددوا الشعور بالخوف من الله وتقواه، وهذا يظهر دائما فى تلك العبادة لأنها عبادة سرية لا يطلع عليها إلا رب القلوب وفيها تدريب على كيفية معاملة الغير حتى من يخطئ فى حق الانسان فيقول النبى صلى الله عليه وسلم “فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم إنى صائم” فجعل الصوم أداة لدرء المفاسد تصديقا لقول الله تعالي “إن الله يدافع عن الذين آمنوا” .
التعليقات