ونكمل الجزء الخامس مع ماذا بعد رمضان؟ وقد توقفنا عند الإستقامة، وقوله تعالى نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة أى تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة ” نحن أولياءكم ” أي نحن قرناءكم الذين كنا معكم فى الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة، وقيل أى نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياءكم في الآخرة، ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم أي من الملاذ، ولكم فيها ما تدعون تسألون وتتمنون، نزلا أى رزقا وضيافة، وبعد رمضان هناك مواسم تتكرر، فالصلوات الخمس من أجلّ الأعمال وأول ما يحاسب عليه العبد، ولئن انتهى صيام رمضان فهناك صيام النوافل كالست من شوال، وقد قال صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كمن صام الدهر” وهناك صيام الاثنين والخميس والأيام البيض وعاشوراء وعرفة وغيرها، ولئن انتهى قيام رمضان فهناك قيام الليل، فقال تعالى واصفا عباده المؤمنين.
“كانوا قليلا من الليل ما يهجعون” وعندما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة بعد الفريضة قال ” قيام الليل” ومن أراد أن يعرف هل قبل الله صومه أم لا فلينظر فى حاله، ويقارن بين وضعه فى شهر رمضان، وحاله بعد شهر رمضان، فهل ملأت التقوى قلبه؟ وهل صلحت أعماله وتحسنت أخلاقه؟ وهل استقام سلوكه؟ وهل اجتمعت كلمتنا؟ وهل زالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ فإذا كان ذلك قد تحقق فهى البشرى بالقبول، وإلا فليراجع كل منا نفسه، وأن المؤمنين الصادقين بعد رمضان على حالين، حال الوجل والخوف والشفقة من أن تدفع أعمالهم الصالحة فلا تقبل، فهم يرجون الله ويدعونه ويسألونه أن يتقبل منهم، وأما الحال الثانية فهى الاستمرار فى الطاعة والمداومة على الخيرات وتلاوة القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم “سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” وإن الله عز وجل لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة.
بل يطلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، فشهر رمضان يغرس فى النفوس خيرا عظيما، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل ورده العودة إلى المعاصى بعد الطاعات، فلنجعل من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير سائر العام، ومنهج حياة فى كل الأحوال، وبعد انقضاء الشهر لنا وقفات نقفها حتى نحاسب أنفسنا، فمن الذي استفاد من رمضان؟ فيقول النبى صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” وقال صلى الله عليه وسلم” من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فمتى يحصل المغفرة والتكفير؟ قيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له وأصابها سواء شعر بها أم لم يشعر.
أما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نقص له من الأجر بحسب نقصه فلا يلومن إلا نفسه، وإن الصلاة مكيال، والصيام مكيال، فمن وفاها وفى الله له، ومن خفف فيهما فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ فإذا كان الويل لمن طفف فى مكيال الدنيا، فكيف حال الذي فرط بالكلية؟ وكيف حال الذى لم يقم ولم يصم؟ وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام، ألم يقل النبى صلى الله عليه وسلم “من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، وقالها جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم ثم قال له قل آمين، فقلت آمين من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله دعاء عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه، لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتبا له إذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة.
فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، إذا فرط في رمضان فتفريطه فى غير رمضان من باب أولى ولذلك أبعده الله لأنه لا يستحق أجره ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولقد مضت الأعمال، والصيام، والقيام، والزكاة، والصدقة، وختم القرآن، والدعاء، والذكر، وتفطير الصائم، وأنواع البر التي حصلت، والعمرة التى قام بها الكثير، لكن هل تقبلت أم لا؟ هل قبل العمل أم لا؟ فكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى أن لا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى أن لا يكتب له الأجر، قال بعض السلف كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتماما بالعمل ذاته، وكان بعض السلف يقول فى آخر ليلة من رمضان يا ليت شعرى من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك، فإذا فاته ما فاته من خير رمضان فأى شيء يدرك.
ومن أدركه فيه الحرمان فماذا يصيب، كم بين من حظه فيه القبول والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران، وإن من علامات التقوى هو الامتناع عن الفسق فى رمضان، والذى يخشى على عمله ولا يدرى هل قبل منه أم لا، يجتهد في العبادة، ويواصل في الطاعة، والذى يظن أنه قد عمل حسنات أمثال الجبال فلا يهمه بعد ذلك، ويقول عندى رصيد، وساعة لربك وساعة لقلبك، ولكن مواصلة الطاعة والعبادة بعد رمضان واجبه ومفروضه، فإن الذى يتق الله حق تقاته يواصل على الطاعة والعبادة، والله تعالى لما ذكر صفات المؤمنين لم يقيدها بوقت ولم يخصها بزمان، فهم باستمرار يفعلون ذلك وليس قيام رمضان فقط وهكذا من سائر صفات المؤمنين والسبب أننا مطالبون بالعمل إلى الموت بأمر من الله تعالى، فلا بد من الصبر والمصابرة على الطاعة، وهذه وقفة مهمة جدا في قضية الاستمرار على الطاعة، ولعله لهذا السبب شرع لنا صيام الست من شوال، حتى لا تنقطع العبادة الجميلة وهي عبادة الصيام.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم “من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها هكذا يقول الله تعالى” وفي رواية” جعل الله الحسنة بعشر” وفي رواية “فشهر بعشرة أشهر” وفي رواية “صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام من شوال بشهرين فذلك صيام السنة ” فيكون ستة في عشرة بستين، ستون يوما وهي شهران مع الشهر الذي صمناه في عشرة بعشرة أشهر فتمت السنة، وفضل الله عظيم، وكرمه واسع، وهباته مستمرة، وعطاءه لا ينقطع، ولكن أين العاملون؟ فمن فعل هذا دائما فكأنما صام عمره، من كان كلما صام رمضان صام ستا من شوال فإنه يكون قد صام العمر، له أجر صيام الدهر، وكما يجب علينا عدم الاغترار بما حصل من الطاعات، فإن بعض الناس اجتهدوا فعلا صاموا، وحفظوا جوارحهم، وختموا القرآن، وبعضهم أكثر من مرة، وعملوا عمرة في رمضان، وصلوا التراويح، وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره ولم يخرموا منه يوما أو ليلة.
التعليقات