ونكمل الجزء الثانى والثلاثون مع الخلافة الراشدة، وقد تنعم المسيحيون في العقود الستة الأولى لفتح الشام والعراق ومصر بالسلام والطمأنينة، ولم تتبدل أوضاعهم كثيرا، سوى أن الضرائب المترتبة عليهم أصبحت تدفع إلى العرب بدلا من البيزنطيين، وكانت لا تزال مُحتملة ولم تتزايد وتتضاعف إلاَ في أواسط العهد الأموي تقريبا وقد التزم الخلفاء الراشدون بالعهد الذى قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران، والذى يُشير الباحثون أنه كان ملزما المسلمين في كل زمان ومكان حتى قيام الساعة، وبناء عليه فقد حافظ الراشدون على كنائس وصوامع وأديرة المسيحيين وأعفوا الرهبان والمتصوفين والبطاركة من الجزية كما جاء في نص العهد.
لهذا يتخذ الباحثون المسيحيون المشرقيون بالأخص موقفا إيجابيا من الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين، وأما عن رأي الموحدين الدروز، فيقول الدروز أن الله أعلم إن كان عمر وأبو بكر وعثمان هم أحق من علي بالخلافة أم العكس صحيح، وأن العمر محتوم عملا بالآية القرآنية ” ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها” وبما أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان توفوا في حياة الإمام علي فلو وُلى الإمام علي الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أبو بكر وعمر وعثمان توفوا في حياته، ولم يتسن لهم تأدية رسالتهم إلى الأمة الإسلامية، وما كان الإسلام قد بلغ مبلغه، لذلك قضت مشيئة الله أن يكونوا قبله، وهم يفضلون الخلفاء الأربعة حسب ترتيبهم بالخلافة.
ولكن في ذات الوقت لا يفضلونهم في المنزلة، بل يعتقدون أن الإمام علي هو أعلى منهم، وبهذا فإن موقف الدروز تجاه الخلافة الراشدة ليس بموقف سلبي ولا إيجابي مطلق، ويفترض المؤرخين والباحثين وجود عدة عوامل دفعت الأنصار للاجتماع على عجل، لعلَ أهمها هو شعورهم بأنهم بحاجة ماسة إلى اختيار خليفة يتولى شؤون المدينة وأمر المسلمين وخصوصا وأن مدينتهم مهددة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من الأعراب ورجال القبائل بوصفها العاصمة الإسلامية، كما أن كثيرا من الأعراب ومعظم رجال القبائل لم يؤمنوا، وأنما أسلموا بلسانهم خوفا من قوة المسلمين المتنامية، كما أنهم أدركوا أنهم مهددون قبل غيرهم من أولئك لأنهم كانوا السند للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وهم الذين ناصروه واستطاعوا مع المهاجرين أن يضعوا نواة الدولة الإسلامية الأولى، التي تمكنت من إخضاعهم والسيطرة على ديارهم، بالإضافة إلى أنهم رأوا أنهم أصحاب المدينة وأصحاب الغلبة والنفوذ فيها، وأنهم ما زالوا أصحاب الضرع والزرع، وأن الحكم حق لهم دون غيرهم وأنه لا يجوز لغيرهم أن يحكمهم في بلدهم بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولأنهم من السباقين إلى الإسلام، وهم من نصر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وإيوائهم له، وإليهم كانت الهجرة، وما نتج عن ذلك من فضائل لم تتوافر لأى قبيلة عربية أخرى، وأخيرا أرادوا تحاشي هيمنة قريش الظاهرة منذ فتح مكة والتي ارتضوها احتراما للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وخشوا إن انتخب مرشح قرشي من المهاجرين أن يستبد بالأمر، فيقعوا تحت سيطرة قريش التي حاربوها ثماني سنوات، مما يهدد باختلال التوازن لغير مصلحتهم في المرحلة القادمة، ومن الثوابت المتفق عليها أن الإمام على بن أبي طالب كان همه الأساس وحدة المسلمين وعدم تفرقهم وتشتتهم، وهذا ما يستند إليه الكثير من العلماء المسلمين عند الحديث عن مبايعة الإمام علي لأبي بكر الصديق، فقد استمر الإمام علي طيلة عهد خلافة أبي بكر الصديق يبذل النصيحة والمشورة له، وخرج معه إلى ذي القصة عند بدء حروب الردة، وشهد معه الصلوات، وأن الإمام علي كان أول من عمل على وأد الفتنة والانقسام بين المسلمين عند مبايعة أبي بكر الصديق.
التعليقات