ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25–30) في مقالة منفصلة، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية في ست عشرة مقالة منفصلة عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، وعصور الظلام الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأروربية، عصر التنوير الأوروبيين، والليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الجديدة، وحقوق الإنسان، والاشتراكية العلمية، والاشتراكية الديمقراطية، ومقالتي هذه عن مفهوم “ما بعد الحداثة” للحرية.
كما أسلفنا فإن الثورة الفرنسية في عام 1789م أكدت حضور الدولة البرجوازية والقيم الليبرالية والديمقراطية التي سجلت نفسها في منطق الحداثة، لقد دخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات وتقسيم العمل إلى الحياة الاجتماعية، بعد التغيير المستمر وانهيار القيم والمعايير والثقافة التقليدية، وبالتالي فإن التقسيم الاجتماعية للعمل أدى إلى إحداث نوع من الصراعات الاجتماعية التي شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون، وظهرت على التوالي أهمية النمو السكاني ومركزيات المدن والتطور الهائل لوسائل الاتصال والمعلوماتية، هذه العوامل مجتمعة سجلت انطباعاتها في مفهوم الحداثة وأبدتها على أنها ممارسة اجتماعية ونمط من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار وعلى أساس القلق واللا استقرارية والحركة الدائمة، لقد استطاعت الإنجازات الحضارية التي تجسدت بتطور العلوم والتقنيات والتطور العقلاني والمنظم لأدوات الإنتاج أن ترسم حدود الحداثة وتخومها حيث تبدت هذه الحداثة في تكثيف العمل الإنساني، وتأكيد الهيمنة الإنسانية على الطبيعة، وتلك هي خاصة أغلب المجتمعات الحداثية التي أدت إلى تغيير عميق وشامل في شروط الحياة والتفكير في آن واحد، ويعد العقل مبتدأ الحداثة وخبرها ولذلك فإن هيمنة العقل وسيادته تشكل المنطلق الحقيقي للحداثة وأساسها المركزي، كما أخذ العلم دورًا مركزيًا في مفهوم الحداثة وهو دور يتكامل مع أهمية العقل ودوره التنويري، وأصبحت المعرفة العلمية هي المحور الأساسي في فهمنا للكون وحقائقه وعلله وتجلياته بصرف النظر عن المعارف التراثية والتقليدية التي سادت في العصور الماضية من تاريخ الإنسانية، وأخذت الحرية مكانها المميز في صميم مفهوم الحداثة، فالحداثة هي حالة من المغامرة في عالم الضرورة والحتمية وهي من هذه الزاوية تتجلى في صورة إرادة إنسانية حرة تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان على مقياس إرادته وعلى أطياف أحلامه الإنسانية، وتتمثل هذه الحرية في إرادة إنسانية تسعى لهدم عالم الوصاية وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده، كما يأخذ مفهوم الزمن وعلاقة الإنسان بالزمن أهمية مركزية بين أطياف مفهوم الحداثة، فالإنسان في الحداثة يصنع زمنه ويرسم ملامح مصيره بإرادته، فالزمن في الحداثة لا يأخذ صورة دورات متكررة صائرة إلى بداياتها، إنه لحظات متقطعة متنافرة متقدمة، إنه صولة الإنسان وتجسيد لإرادته الخلاقة، والإنسان في هذا التصور يصنع تاريخه ويصوغ لحظات وجوده، وفي أصل هذا التصور للزمن بوصفه حركة إنسانية واعية تجلت فكرة التقدم الإنساني وفكرة المصير الذي تقرره إرادة البشر، إنها الحرية التي تتمثل في الخروج عن وصاية الزمن، إنها الإرادة التي تنتزع نفسها من قبضة الحتمية المتمثلة في دائرة الزمن، ويشكل الحق دائرة مركزية في أصل الحداثة، فالحق ينبثق من إرادة البشر وليس من عالم الطبيعة والقوى الخارقة لها، وهذا يعني أن الإنسان يشكل بإرادته وحريته وحجم حضوره في هذا الكون مصدر الحقيقة الأولى وصانعها، والفعل الإنساني في نهاية الأمر صورة إرادة إنسانية تجعل من الإنسان بصورته الاجتماعية مبتدأ الحقيقة وغايتها، وتأخذ الحداثة ملامحها الأساسية في الفلسفة الوضعية، التي أحدثت نوعا من القطيعة مع التصورات الأبوية والكنسية التقليدية مؤكدة أهمية المعرفة العلمية والعقلانية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية واتجاهاتها، وفي هذا السياق تتبدى الحداثة أيضا في عطاءات المنهج العلمي التجريبي الذي أخذ هيئة العقلانية الأداتية التي اتسمت بالموضوعية والتماسك والتي بدأت تسجل حضورها العارم في مختلف مجالات المعرفة العلمية بفروعها المختلفة، كما شهدت الحداثة وما زالت تشهد أيضًا نموًا متسارعًا في جميع ميادين المعرفة العلمية والتكنولوجية على مختلف المستويات الاجتماعية والإنسانية، وقد تنامت هذه المعرفة بصورة ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية على مدى العصور والأزمنة، لقد تميزت مرحلة الحداثة بظهور عدد كبير من التيارات والنظريات والفلسفات والاختراعات العلمية والتكنولوجية وفي مجال الفن والنحت والتصوير والموسيقى والأدب والهندسة والكيمياء وفي مجال الذرة والبيولوجيا والشيفرات وفي مجالات أخرى تنأى عن التعداد والحصر.
لقد كانت الحداثة أهم تجليات الرأسمالية الغربية في مراحلها المتقدمة، وظلت محتفظة ببريقها طالما ظلت الرأسمالية فتية وقادرة على التقدم والتطور، ولكن عندما شاخت الرأسمالية وفقدت دورها التاريخي وأصبحت عبء على التقدم والتطور الإنساني بسبب التناقضات الجمة بداخلها، وارتكازها على الاستغلال الطبقي وتراكم رأس المال وما أدى إليه من زيادة الأغنياء غنى، وزيادة الفقراء فقرًا، تنامى اغتراب الإنسان وتشيئه وانفصاله عن ذاته، وفقدت الحداثة قدرتها على تحرير الإنسان بالمفهوم الحقيقي، ورغم أن الحداثة وجدت من أجل تحرير الإنسان ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية التشيء والإغتراب، لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعًا للعلم والعقلانية المجردة، وتم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية، وقد تحدث جان جاك روسو (1712-1778) زعيم النزعة الطبيعية، في القرن الثامن عشر، عن مسالب الحداثة ومخاطر العقلانية الصارمة التي اجتاحت العمق الإنساني واستلبت المشاعر السامية للإنسان، فهاجم روسو بشدة التقدم العلمي من أجل التطور المادي والربح فقط، الذي أدى إلى تشويه الجانب الإنساني في الإنسان، ونادى بإصلاح التربية والقيم والمؤسسات السياسية والدين من أجل الإنسان في أعمق مضامينه الإنسانية، كما أكد روسو على أن الحضارة المادية العقلانية تؤدي إلى تراجع الأخلاق وتراجع القيم الإنسانية وتدفع الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب، وبالتالي وفي غمرة تحقيق الوحدة بين الإنسان والمجتمع فإن الحداثة تؤدي إلى تأكيد السيادة السياسية التي توظف في خدمة العقل وهي سيادة تنمو وتزدهر على حساب الذات الإنسانية المتفردة، أي أنه من أجل انتصار العقل والعقلانية يجب التخلي عن الذات الإنسانية بما تنطوي عليه هذه الذات من كرامة وخصوصية، وهنا يجب على الإنسان أن يخضع لعقله وتأملاته العقلية وذلك على حساب عواطفه ومشاعره وقيمه الخاصة، وعلى هذا الأساس يستطيع المرء أن يتدرج وأن يأخذ مكانه وحضوره في سياق وجوده الاجتماعي وذلك بوصفه عاملًا أو جنديًا أو مواطنًا بدرجة أكبر من كونه سيدًا لنفسه ولمصيره، وعلى هذا الأساس يتحول العقل إلى طاغية والعقلانية إلى قهر واستبداد تنتهك وجود الإنسان وتستلبه، ولذلك شكلت الحداثة على مدى القرون الماضية دريئة للنقد من قبل مفكرين أفذاذ مثل كارل ماركس ونيتشه وفرويد واستطاعوا أن يفندوا جميع الأسس التي قامت عليها الحداثة، ورغم أن تجاهل الجانب الذاتي في الإنسان يضع الحداثة في وضعية أزمة فإن تغييب الجانب العقلي لحساب الجانب الذاتي يضاعف من حدة هذه الأزمة، فالإنسان الذي يتجرد من عطاءات العقلانية يضع نفسه في زنزانات الهوية والنزعات الاعتباطية ويذوب في معاصر التعصب والتحيز والانكماش، وتلك هي المعادلة الصعبة، والحل المناسب هنا ليس في أن يختار الإنسان بين العقل أو الذات بل يتوجب عليه أن يحقق التوافق بين الطرفين والتوازن بين الاتجاهين، أي بين العقل وبين الذات الإنسانية، وإنه لمن مظاهر الخطر الكبير تنامي هذا الانفصال بين الجانبين، بين العالم العقلي وبين العالم الذاتي في مستوى الإنسان الفرد كما في مستوى المجتمع، بين الحياة الخاصة وبين الحياة العامة للفرد، وغالبًا ما تجد هذه المعادلة الصعبة مخرجها عبر عملية ديمقراطية تتميز بالقدرة الحقيقية على تحقيق علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع بين المصلحة الخاصة للفرد وبين المصلحة العامة.
وفي الستينات والسبعينات ظهر في مجال العلوم السياسية ما يمكن تسميته بالجيل الثاني لمنظري الحداثة أو الذين عرفوا بدعاة تجديد النظر، وشكل هذا الفريق جيلًا انتقاليًا من النظرية الحداثوية إلى نظرية ما بعد الحداثوية، بمعنى أنهم كانوا يقبلون بمبدأ ضرورة انتقال المجتمعات التقليدية إلى المجتمع الحديث، ولكنهم سجلوا جملة انتقادات على الجيل الأول للمنظرين الحداثويين، ومن جملة الأشخاص الذين سجلوا انتقاداتهم على النظريات الحداثوية والترابطية الكاتب الأمريكي “غاسفيلد”، و “آندره غوندر فرانك”، ويعد آندره من المنظرين المعروفين لنظريات الترابط، وقد سجل انتقاده على نظرية المقابلة التي تجعل المجتمع التقليدي قبال المجتمع الحديث.
إزاء هذه التناقضات التي نسبت إلى مرحلة الحداثة وعرفت بها، وفي مواجهة هذه الإشكاليات والتحديات، التي تولدت نتيجة للتحولات التاريخية، في النصف الثاني من القرن العشرين، توجب على الإنسانية أن تبحث عن حالة توازن جديدة لتحقيق التوافق الاجتماعي الثقافي وتحقيق المصالحة بين العقل والروح، بين المظاهر المادية للحضارة والمظاهر الروحية، بين العقلانية والذاتية، وفي إطار البحث الإنساني عن مخارج حضارية جديدة للأزمات المتفاقمة جاءت مرحلة “ما بعد الحداثة” بأفكار وآراء ونظريات مرشحة لتقديم تصورات ذكية عن المخارج الحضارية الجديدة لتجاوز الاختناقات التاريخية القائمة، ومرحلة ما بعد الحداثة لا ترفض عطاءات المرحلة الحداثية بل تأخذها وتعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات وتتكامل فيها مختلف جوانب الوجود الفكري والإنساني في لحمة واحدة، إذن هي محاولة لإعادة ترتيب الإشكاليات المطروحة ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإدماجه في حركة التطور الإنساني.
ارتبطت مابعد الحداثة في بعدها التاريخي والمرجعي والسياقي بتطور الرأسمالية الغربية ما بعد الحداثية اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، وثقافيًا، كما ارتبطت ارتباطا وثيقا بتطور وسائل الإعلام، فقد وصف الفيلسوف الماركسي الأمريكي “فريدريك جيمسون” ما بعد الحداثة بأنها المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة، التي هي الممارسات الثقافية المترابطة ترابطا عضويًا إلى العنصر الاقتصادي والتاريخي لما بعد الحداثة “الرأسمالية المتأخرة”، وهي الفترة التي تسمى أيضًا الرأسمالية المالية أو الاستهلاكية أو ما بعد الثورة الصناعية أو العولمة، وغيرها، في هذا الفهم إذن، يمكن أن ننظر إلى هيمنة فترة ما بعد الحداثة على أنها بدأت في وقت مبكر من الحرب الباردة واستمرت حتى الوقت الحاضر، وقد جاءت مابعد الحداثة كرد فعل على المقولات المركزية الغربية التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاسغلال والاستلاب، كما استهدفت مابعد الحداثة تقويض الفلسفة الغربية، وتعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية، كما عملت مابعد الحداثة على انتقاد العقلانية والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك، وقد ظهرت مابعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية ، والعدمية، وقد كانت التفكيكية معبرًا رئيسًا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى مابعد الحداثة، ومن ثم كانت مابعد الحداثة مفهومًا مناقضًا ومدلولًا مضادا للحداثة، ولذلك احتفت مابعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللا تقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بالأنموذج الكوني، وبالخطية التقدمية، وبعلاقة النتيجة بأسبابها، وحاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية، وضرورة قبول التغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة، كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، حتى أدب مابعد الحداثة ونظرياتها تأبى التأويل، وتحارب المعاني الثابتة، وقد ظهرت مابعد الحداثة أولا في مجال التشكيل والرسم والعمارة والهندسة المدنية، قبل أن تنتقل إلى باقي العلوم والمعارف الإنسانية، ولايمكن الحديث عن مابعد حداثة واحدة، بل هناك مابعد حداثة عامة ومابعد حداثات فرعية، وقد غزت نظرية مابعد الحداثة جميع الفروع المعرفية، كالأدب، والنقد، والفن، والفلسفة، والأخلاق، والتربية، وعلم الاجتماع، وعلم الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والعمارة، والتشكيل، وغيره.
يرى بعض المفكرين أن الحداثة تضج بمظاهر التجزئة والتشظي والانشطار في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي والفكري، وأمام هذا الواقع تتجه القوى الحضارية لمرحلة ما بعد الحداثة إلى توحيد هذه الاتجاهات وعقلنة وجودها في سياق تكاملي، وهذا يعني البحث عن مبدأ التكامل في نسق الوجود الاجتماعي والإنساني وبالتالي تحقيق النقلة الواعية من مبدأ الفصل والاستبعاد إلى مبدأ الوحدة والتكامل والإنسانية، ومن أجل هذه الغاية يجب التدخل لتحقيق هذه الانسيابية في مستوى المعارف العلمية والتكنولوجية، فقد بلغت المعرفة العلمية حالة مزرية من الفوضى والجزئية والتناقض، وقد خضعت هذه المعرفة لمبدأ التعدد المدرسي في كل اتجاه وحدب وصوب، وإذا كانت مرحلة الحداثة تؤكد هذه الوضعية وتعرف بها فإن ما بعد الحداثة تؤكد على أهمية الوحدة والتنسيق والتكامل والتبادل بين مختلف الاتجاهات والتيارات العلمية المتنافرة، وهي وفقًا لهذا الاتجاه تبحث عن سياق تتكامل فيه هذه الاتجاهات رغم تعددها وتنوعها، لتشكل طاقة حضارية متجددة وفاعلة ودافعة إلى تحقيق التطور، وفي نسق رؤية نقدية لوضعية التجزؤ والفوضى المعرفية التي شهدتها مرحلة الحداثة يرى “موران” أنه قد حان الوقت من أجل تجاوز وضعية التشتت والتجزئة والفوضى العلمية القائمة وإيجاد لحمة حقيقية بين التيارات والاتجاهات العلمية والفكرية المتنافرة، فالتيارات المتعددة يمكن أن تشكل العناصر الأساسية لنسيج علمي متطور يؤدي إلى بناء تكوينات علمية جديدة قادرة على توفير الشروط الحضارية لعملية إبداع متواصلة وحركة تجديد في مختلف ميادين الوجود والحياة، وفي غمرة هذه التصورات الجديدة الداعية إلى الوحدة والتكامل بين عناصر الحياة الفكرية والاجتماعية يحدد ليوتار اتجاه وغاية هذه النزعة إلى التجديد والشمولية، فالهدف من هذه النزعة حسب ليوتار لا يهدف إلى مجرد إحداث القطيعة مع الماضي وتفكيكه وإنما الهدف هو العمل على تطوير الأنظمة القائمة وتغذيتها بطاقة جديدة فاعلة في ميدان الإبداع والتجديد، وفي هذا السياق عينه ينظر ليوتار إلى التعقيد بوصفه صورة متقدمة لعملية التطور، وهذا يعني أن الأنظمة تصبح أكثر تطورًا كلما أصبحت أكثر تعقيدًا، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تجاوز الازدواجيات والثنائيات في الفكر والإيديولوجيا والنظريات يعني في الوقت ذاته نهاية الأنظمة الفكرية الشمولية والنظريات الكبرى التي تحجرت وتصلبت تحت تأثير الانغلاق الإيديولوجي والتعصب الفكري، وعلى خلاف الأنظمة المغلقة فإن النظام ما بعد الحداثي يبشر بحالة من الانفتاح الواسعة، وهذا الانفتاح يؤسس بدوره لمناخ يحفز على الإبداع وينضج بإمكانيات الابتكار والتجديد في مناحي الحياة المختلفة، فالتجديد يولد ويتوالد في قلب عملية الجدل والصراع والمواجهات والتعارض والتخاصب بين مختلف التيارات والاتجاهات التي يتوجب عليها أن تخرج من دوائر الجمود والانغلاق، وهذه التصورات ما بعد الحداثية الجديدة، التي تعبر عن إرهاصات واقع متقدم، يضج بطاقات الإبداع والابتكار، ويسعى إلى البحث الدائم عن آفاق إنسانية جديدة، لا تتوانى عن إظهار بعض التحديات التي تواجه المصير الإنساني في هذه المرحلة المتقدمة من التطور.
وبذلك تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على نقد، بل ورفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة، كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها هذه الحضارة، أو على الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها، ولذا يذهب الكثيرون من مفكري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية التي تعتبر هي الطابع الأساسي المميز لتلك الحضارة، بل إن البعض يرون أن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل، وأن ما بعد الحداثة تهيئ لقيام مجتمع جديد يرتكز على أسس جديدة تماماً غير تلك التي عرفها المجتمع الغربي الحديث، وقد تأثر مفكري ما بعد الحداثة في ذلك بأفكار بعض الفلاسفة الألمان مثل نيتشه وهايدجر اللذين كانا قد أثارا فكرة إمكان قيام أسس جديدة للفكر الإنساني الحديث والمعاصر، ولكن هذا لا يمنع من وجود اتجاهات أخرى ترى أن الأمر لا يعدو أن يكون بعض التعديلات والتحويرات في بعض عناصر الثقافة الغربية (الحديثة) مثلما يحدث في كل الثقافات والحضارات خلال تاريخها، وأن هذه التعديلات والتحويرات نشأت نتيجة لتغير الظروف والأوضاع التي تحيط بتلك الثقافات، ولكنها مهما يبلغ من عمقها، فإنها لن تخرج عن أن تكون تغيرات هامشية لا تؤثر في جوهر الثقافة الغربية ومقوماتها الأساسية، وهذا معناه أن ثمة اختلافًا بين المفكرين حول إذا ما كانت ما بعد الحداثة تمثل مرحلة قائمة بذاتها ولها مقوماتها ومقتضياتها الخاصة، أم أنها مجرد استمرار لمرحلة الحداثة رغم كل ما طرأ عليها من تغيرات، وبذلك تكون مجرد حالة للفكر والثقافة تتميز بوجود أنماط ثقافية لم يتم الاتفاق بعد على تحديد ملامحها، ويمكن الحديث في إطار مابعد الحداثة عن أربعة منظورات تجاهها، وهي المنظور الفلسفي الذي يرى أن مابعد الحداثة دليل على الفراغ بغياب الحداثة نفسها، والمنظور التاريخي الذي يرى أن مابعد الحداثة حركة ابتعاد عن الحداثة أو رفضًا لبعض جوانبها، والمنظور الإيديولوجي السياسي الذي يرى أن ما بعد الحداثة تعرية للأوهام الإيديولوجية الغربية، والمنظور الاستراتيجي النصوصي الذي يرى أن مقاربة نصوص مابعد الحداثة لا تتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة، بل قراءات منفتحة ومتعددة.
لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة، لقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة الأرضية العلمية التي تنامى في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة، وقد شكلت تلك الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة منبع للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان ما بعد الحداثة، وبذلك نجد أن مفهوم ما بعد الحداثة لا يأخذ أهميته بوصفه امتدادًا زمنيًا لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية، وفي غمرة الانتقادات التي وجهت إلى الحداثة وفي ملامح الأزمة التي تعيشها الحداثة، دفعت بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الإنسانية خرجت تحت تأثير هذه الاختناقات الحضارية من مرحلة الحداثة، وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها ما بعد الحداثة، ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى فريق آخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيرًا عن سقوط المنظومة الاشتراكية، ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى موقف “يورجين هابرماس” من هذا المفهوم في مقالة له بعنوان “الحداثة مشروع لم يكتمل” في عام 1981، حيث يرى بأن لفظة ما بعد الحداثة تمثل رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن ماض متشبع بتناقضات كبيرة وتعبر في الوقت نفسه عن سعي حثيث إلى وصف العصر الجديد بمفهوم لم تتحدد ملامحه بعد وذلك لأن الإنسانية لم تستطع أن تجد الحلول المناسبة للإشكاليات التي يطرحها العصر، ووفقا لهذه الصيغة يرى هابرماس بأن ما بعد الحداثة هي صيغة جديدة لمفهوم (الحداثة)، وأن ما بعد الحداثة محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها حتى النهاية.
ثمة مجموعة من النظريات الأدبية والنقدية والثقافية التي رافقت مرحلة مابعد الحداثة، وذلك مابين سنوات الستين والتسعين من القرن العشرين، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى التأويلية، ونظرية التلقي والتقبل، والنظرية التفكيكية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والنظريات الثقافية، والنظرية الجنسية، ونظرية الجنوسة، والنظرية التاريخانية الجديدة، والنظرية العرقية، والنظرية النسوية، والنظرية الجمالية الجديدة، ونظرية مابعد الاستعمار، ونظرية الخطاب (ميشيل فوكو)، والمقاربة التناصية، والمقاربة التداولية، والنقد البيئي، والنقد الجيني، والنقد الحواري، والمادية الثقافية، كما تنطلق حركة ما بعد الحداثة من عدة سمات أساسية تتمثل في عدة اتجاهات أهمها هدم الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة وتقويض أسسها، والعمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع، بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيائية، ورفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة ولا سيما مفهوم التطور التعاقبي أو الخطي أو الزمني الذي يسجل حضوره في الأنساق الاجتماعية والحياة الاجتماعية، وهي فكر يرفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، ونظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ، ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود، ورفض اليقين المعرفي المطلق ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول، أي تطابق الأشياء والكلمات، ويلح على إسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع والجامعة، في الأدب والفن، والإطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة، وفي هذا السياق، يرفض أنصار ما بعد الحداثة مفاهيم حداثية مثل العقل والذات والعقلانية والمنطق والحقيقة، فهي مقولات مرفوضة، والحقيقة وهم لا طائل منه، ذلك لأن الحقيقية مرتهنة بعدد من المعايير الخاصة بالعقل والمنطق وهذه بدورها مرفوضة أيضا.
يعد الفيلسوف الفرنسي المعروف “جان فرانسوا ليوتار” أهم المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام وهو من أعلن نهايتها معلنًا عن ميلاد عصر ما بعد الحداثة في كتابه المعروف “الوضع ما بعد الحداثي” عام 1979، وهو في هذا السياق يعلن عن سقوط النظريات والإيديولوجيات الكبرى وعجز هذه النظريات عن قراءة الواقع أو تفسيره لأن هذه الأنساق الفكرية تعاني من الجمود والانغلاق وهي ليست قادرة كما يذهب أصحابها وروادها على تفسير العالم أو المجتمع، ومن القضايا التي يناقشها جان فرانسوا ليوتار في هذا الجانب إشكالية الحتمية التي يعلن سقوطها تأسيسا على تطور العلوم الطبيعية والتاريخ، فالحتمية في اعتقاده تعلن إفلاسها أمام المستجدات العلمية الجديدة في القرن العشرين، لقد بينت الأحداث المتتابعة على مدى القرن العشرين، أن التاريخ لا يأخذ خطًا حتميًا تحركه تتابعات المراحل، وحتميات التتابع التاريخي الذي أنبأت عنه الماركسية وغيرها، فالتاريخ الإنساني قد يأخذ خط التقدم، ولكنه قد يتراجع وقد ينهض من جديد أو يراوح في مكانه، فلا مكان لأقدار الحتمية وأفكار الغايات التي يسعى إليها التطور في منظور الأنساق الفكرية الكبرى، وبين ليوتار طبيعة التغيرات التي تحدث في الوقت الحالي في مجال تصنيف المعارف وأساليب الحصول عليها وطرق استخدامها، وأثر التسارع المتزايد في مجالات المعرفة في تغيير الحياة اليومية في المجتمع المعاصر، وآزر الدعوة إلى الاختلاف وإلى التعدد في كل المجالات النظرية وحارب النظريات والمناهج العامة الكلية أو الشمولية وأكد على التغاير بين أنواع الخطاب المختلفة، وأن لكل منها قواعده ومعاييره ومناهجه الخاصة، كما أن للأحكام النظرية والعملية والجمالية استقلالها وقواعدها ومحكاتها المتميزة، كما كان يرفض الأفكار المتعلقة بإمكان قيام نظرية كلية شاملة أو أساسية أو وجود منهج أو مجموعة من المفاهيم تتمتع بمكانة متميزة في أي مجال من المجالات، وإذا كان العلم يتمتع بسلطة فائقة في العصر الحديث، فإن ذلك يرجع إلى استناده إلى قوة وفاعلية ما يسميه ليوتار أحيانًا بالأساطير، وأحيانًا أخرى بالحكايات والقصص العليا أو ما وراء الحكايات أو (الميتاحكايات)، وقد شغل ليوتار نفسه بمحاولة الكشف عن هذه الأساطير وتحليلها وفحصها، كما دعا ليوتار إلى التخلص من فكرة الثورة لبلوغ الحرية والسعادة.. أما جان بودريار فقد أنكر وجود الحقيقة مادامت ترتبط ارتباطًا وثيقا باللغة والخطأ والظن والمبالغة المجازية والبلاغة التخييلية ووسائل الإعلام، ومن ثم فقد قال بودريار بمفهوم “مافوق الحقيقة” حيث يكون شيء ما حقيقيًا فقط عندما يتحرك ضمن نطاق وسائل الإعلام، وتولد تكنولوجيات الاتصال في مابعد الحداثة الصور العائمة بشكل حر، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة إذا لم تكن بصيغة مشتقة، وقد أخذت تجربة العالم للعبث مكان أي ثقافة مميزة، وأصبح للعبث لهجة واحدة فقط.. ويعد جاك ديريدا كذلك من أهم فلاسفة مابعد الحداثة، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية تشتيتًا وتأجيلًا، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة، وفضح الميثولوجيا البيضاء المبنية على الهيمنة والاستغلال والاستعمار والتغريب والإقصاء، ومن ثم فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم.. ويعد ميشيل فوكو كذلك من رواد مابعد الحداثة، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية، أي أن المعارف في عصر ما تشكل خطابًا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية، وهذا مايوضحه فوكو في كتابه ” نظام الخطاب” 1970، ويرى فوكو أن ثمة علاقة وثيقة بين المعرفة والقوة، وأن الخطاب حول الإنسان قديم، وقد أصبح الخطاب في القرن التاسع عشر خطابا حول الإنسان بامتياز، كما ثار ميشيل فوكو على الفلسفة الغربية وتقسيماتها الكلاسيكية، بمعنى أنه قوض الأوهام الفلسفية، وارتأى أن من يمتلك العلم والمعرفة يمتلك السلطة، ويدرس فوكو في كتابه ” المراقبة والعقاب” 1975م نظام السلطة، وذلك باعتبارها مؤسسة مهيكلة ومنظمة، وجهازًا للضبط والتأديب والعقاب، وهي كذلك تعبير عن المجتمع الليبرالي، وعليه يرتبط فوكو بفلسفة السلطة ارتباطا وثيقا، ويدافع عن حرية الذات، ويبين بأن كل عصر ينتج خطابه المنظم والمهيمن، وبالتالي يعلن نظام الخطاب حقيقة العالم، ويجسد معاييره اليقينية الثابتة.. ومن جهة أخرى اهتم جيل دولوز بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكًا وتفاعلًا، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية، ومن ثم فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق، كما انتقد دولوز مجموعة من الفلاسفة كدافيد هيوم، وبرجسون، وليبنز، وسبينوزا، وقد سخر فلسفته منطلقا لفهم الأدب والفن والسياسة، وتحدث عن الحقل الاجتماعي، وصاغ أنطولوجيا ملموسة للفعل والحدث، وقد آمن جيل دولوز بالتعددية والاختلاف، بعد أن تأثر في ذلك بأطروحات برغسون الحدسية حول الديمومة والزمان والمحايثة والتعددية، وقد اهتم دولوز بفلسفة التأسيس في كتابه “الاختلاف والتكرار”، وتحدث عن التعددية في إطار الاختلاف، وذلك على نقيض فلسفة الهوية، ومن ثم يربط فلسفة التأسيس بالديمقراطية كفضاء لتحقيق الاختلاف، ويعتبر الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع، وبالتالي ففكر التأسيس والاختلاف هو فكر يناقض فكر الهوية والوحدة والإقصاء والتغريب.. أما “دوركهايم” فقدأعطى لقضية حرية الذات جل اهتمامه واستطاع بعبقريته المعهودة أن يميز بين جانبي الشخصية وأن يؤكد الوحدة بين الذات الفردية والاجتماعية، ويقول دوركهايم في هذا الصدد “يوجد في كل منا كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي، أما الكائن الآخر فهو نظام من الأفكار والمشاعر والعادات التي ننتمي إليها، مثل العقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمهنية والمشاعر الجمعية من أي نوع كانت، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبالتالي فإن بناء هذا الكائن الاجتماعي في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها”.
وهكذا نجد أن فلسفة مابعد الحداثة لها قيم إيجابية وقيم سلبية، حيث رأي بعض المفكرين أن “ما بعد الحداثة” قد مات، فيما يرى البعض أن ما بعد الحداثة صار أمرًا واقعيًا وحقيقيًا، لقد سجلت الكثير من الانتقادات على ما بعد الحداثة، وتعتبر ملاحظات “بورغن هابرماس” أهم هذه الملاحظات، فقد شرع هابرماس عام 1981م بحملات نقد شديدة ضد المناصرين لما بعد الحداثة، واعتبرهم محافظين جدد، كما اعتبر نظريتهم نظريةً “ما قبل الحداثة”، لقد وجه حملاته إلى أنصار ما بعد التحديث خصوصًا ليوتار وفوكو، ولم تكن اعتراضاته عليهم فقط، بل كانت له مناظرات أيضًا مع “كارل پوپر” و “هانس آلبرت” حول الوضعية، ومع “نيكولاس لوهمان” حول نظرية الأنظمة، ومع “هانس غورك غادامر” حول الهرمنيوطيقا، ومع “كارل اتواپل” حول الأخلاق، ويعد هابرماس من الأشخاص الذين تربطهم علاقة قوية بالمشروع والبرنامج الحداثوي، فلم يكن يريد تنحية هذا المشروع جانبًا، وكذلك كانت له هجمات عنيفة على المثقفين الفرنسيين، مقدمًا نفسه واحدًا من محافظي المشروع الحداثوي، واصفًا فوكو بالمناهض للعقلانيين، وبادريلارد أحد المحافظين الجدد، وبالإضافة إلى انتقادات هابرماس لما بعد الحداثة، كانت هناك إجابات أخرى أيضًا من جانب المحافظين والكانطيين الجدد، من أمثال راولز، وأنصاره ضد انتقادات ما بعد الحداثويين على القيم الليبرالية، ويعتقد راولز أن بإمكاننا الدفاع عن قيمنا بشكل عقلاني، تلك القيم التي تحوي حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد رأى المحافظون أيضًا ذلك، وذهبوا إلى أنه يجب علينا الدفاع عن قيمنا، كما يجب علينا إلى أبعد حد ممكن الارتباط بالقيم التقليدية، والرجوع إلى التاريخ، ولذلك لايمكن الحديث عن الكمال والتمام في العلوم الإنسانية إطلاقًا، لأن الأفكار والمناهج والتصورات تتناسخ وتتناسل وتتوالد تناصًا وتقويضًا وتفكيكًا وتأجيلًا وتشتيتًا، كما أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، ويرى البعض صعوبة تطبيق تصورات مابعد الحداثة واقعيًا لغرابتها وجنوحها، وأن مابعد الحداثة استهلكت قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، كما أن هناك مفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس، ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ما بعد الحداثة، فهناك من يقول إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي، ولعل المفارقة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره، كما أن دفاع مابعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا، وككل هامشي، أصبحت مابعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية، هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات، حداثية كانت أو مابعد حداثية، كما يرى البعض أن نظرية مابعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها نظرًا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي، وفي هذا السياق يقول دافيد كارتر ” وقد اجتذبت مابعد الحداثة نقدًا إيجابيًا وسلبيًا على حد سواء، فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع، ولكن تعد حقبة مابعد الحداثة أيضًا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة، وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية، وأحد الأنواع الأدبية الشائعة التي تمكن من الاعتراف الآني، وتفكك الأنماط الأدبية التقليدية، كما يحطم كتاب الحداثة الحدود بين الخطابات المختلفة، وبين القصص الخيالية وغير الخيالية، وبين التاريخ والسيرة الذاتية”، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلًا عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية، ومن إيجابيات مابعد الحداثة أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير، وتخليصه من هيمنة الأساطير، كما تعمل فلسفات مابعد الحداثة على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة، وذلك عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم، والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة، كما حاربت من جهة أخرى ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية، ثم انتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري بالنقد والتفكيك والتحليل، كما آمنت نظرية مابعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي، واهتمت كذلك بالتناص والاختلاف اللوني والجنوسي والعرقي، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك، والسخرية، والمفارقة، والغرابة، واعتنت كذلك بالعرضية، والمهمش، وانزاحت عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة، واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللا نظام، ونددت بالمفاهيم القمعية القسرية وسلطة القوة.


التعليقات