ماذا لو شمّر علماؤنا الأبرار عن ساعديهم بجد وكد، هم وإخوانهم المترجمون المسلمون، لينسجوا غيضاً من فيض الوحي الإلهي من سورة النساء تحديداً ، بإبراز نحو من ثلاثين آية مباركة من تلك السورة، واعتبارها أعظم مواثيق سماوية نزلت للعالم السفلي، والإيماء بها كمنجاة لمن استمسك بها، ومهواة لمن حاد عنها…
أقول ذلك بعد تفحص دقيق لآيات تلك السورة ، وكم ظفرت بمغانم سامقة من التطواف حول معانيها الباسقة ومبانيها الراسخة، وشهد شاهد من غير أهلها بسمو واحدة من آياتها، وبلورتها على واجهة أعرق حواضرها العلمية، وخصائصها الحضارية، إنها الآية رقم 135 من سورة النساء ، التي تصاغرت لها هارفارد أكبر جامعة أمريكية مطلقاً ، ونقشتها على مدخل كلية القانون ، معتبرة إياها أعظم عبارة للعدالة في التاريخ مطلقاً ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) ..
وعلى ذات التماهي والتباهي، تزخر سورة النساء بكنوز نورانية بلاغية ، كل كنز يضارع صنوه عبقاً وجمالاً، فإذا الكنوز جميعاً كمالاً وجلالاً….
لكن لماذا اخترت سورة النساء للمفاخرة بها ؟ والدعوة الحثيثة لترجمة جل آياتها؟
باديء ذي بدء
هي السورة التي ذرفت عيني رسول الله عند سماعه إحدى آياتها الناصعة، من فِي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) 41
ولماذا سورة النساء ؟ لأنها إحدى سورتين وحيدتين في سائر القرآن الكريم ، بدأتا بخطاب الناس جميعاً ، هما النساء والحج ، بالرغم من أنهما مدنيتان، وهذه وتلك لها دلالات تشريعية توجيهية تبصيرية عميقة… فإذا كان مراد مطلع سورة الحج المدنية، هو توجيه الناس كافة للحج، امتثالاً لسنة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)… الحج 27
فإن سورة النساء بدأت واستطردت وتعقبت وأسهبت وأطنبت واختتمت فتفردت، بتوجيه جل آياتها للناس كافة، سواء كان الخطاب بصيغة عموم الناس يا أيها الناس ، أو بخصوصية المؤمنين يا أيها الذين آمنوا..
ولماذا سورة النساء ؟
لأنها حثت الناس جميعاً على الاستمساك بالعدل والأمانة وفي كليهما برأت يهودي من تهمة السرقة، فمنعت يده من القطع ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) 105 وأعطت لعثمان بن طلحة يوم أن كان كافراً ، حقه في امتلاك أمانته، التي هي مفتاح الكعبة ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا) 56
ولماذا سورة النساء ؟
لأنها حرمت قتل كل من استمسك بعروة الله الوثقى صائحاً بها وإن أنكرها قلبه ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) 94
وقد نزلت هذه الآية في شأن أسامة بن زيد رضي الله عنهما في أكثر التفاسير، ذلك لما بعث رسول الله جيشاً من المسلمين إلى المشركين، فقاتلوهم قتالاً شديداً ، فحمل أسامة بن زيد على رجل من المشركين فلما غشيه قال الرجل ( أشهد أن لا إله إلا الله ) إني مسلم فقتله أسامة، فبلغ ذلك رسول الله فقال لأسامة ( أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ قال يا رسول الله إنما كان متعوذاً، قال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ فما زال يكررها صلى الله عليه وسلم…
ثم لماذا سورة النساء ؟
لأنها السورة الوحيدة في كتاب الله، التي ذكر فيها لفظ الخلود الأبدي في الآخرة ثلاث مرات، مرتان لأهل الجنة ، ومرة لأهل النار، من أصل أحد عشرة مرة بواقع مرة في سورة المائدة ومرتين في سورة التوبة ومرة في سورة الأحزاب ومرة في سورة التغابن ومرة في سورة الطلاق ومرة في سورة البينة…
وكان لذكر الخلود الأبدي في الجزاء الأخروي ثلاث مرات تحديداً في سورة النساء، دلالة قاطعة في تضاعف اللهجة التحفيزية للمؤمنين، والتحذيرية لغير المسلمين،… منهم مرتان لأهل الجنة ، كدلالة بيانية أخرى بالتبشير لا التنفير….
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلا) 57
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وعد الله حقاً، ومن أصدق من الله قيلا)
( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا) ( إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) 168و169
ثم لماذا ولماذا فلماذا سورة النساء؟
بقية الأجوبة في المقالات القادمة
التعليقات