عام 2011 شكلت الدعوات التي أطلقها نشطاء ومستخدمون شبان في الفضاءات الاجتماعية خاصة شبكة فيسبوك ضد نظام العقيد معمر القذافي، منعطفا في تاريخ البلاد وفي علاقة الليبيين بهذه الوسائل الحديثة، هذه الدعوات التي حققت حينها أهدافها وأحدثت تغييرا إيجابيا في البلد باسقاط نظام العقيد القذافي بعد حكم دام لأكثر من 42 عاما، لم تعد تقوم بنفس الدور وتغيرت طرق توظيفها واستخدامها.
فمع بداية التعدد السياسي وبروز عشرات الاحزاب والمنظمات، لم يتصوّر أحد أن تغدو وسائل التواصل الاجتماعي مساحات للفتنة والاستقطاب وساحات للتصفية السياسية ووسيلة للسب والشتم والقذف وأداة للتهديد والترويج للكراهية والتحريض على العنف، العديد من صفحات الليبيين على مواقع التواصل الاجتماعي باتت مغرَقة بوفرة من خطاب الكراهية والتهديدات ضدّ بعضهم البعض والانقسام، فالواقع اليومي المفعم بالخلافات والصراعات والشائعات تحول الى الفضاء الافتراضي فتنامى السب والشتم في مشهد يعكس حجم الخلافات السياسية والصراع المناطقي الدائر الآن في ليبيا.
ويعبر طلال بن عيسى، وهو طالب بكلية الهندسة ببنغازي، عن أسفه في تحول هذه التقنية التي كان لها الفضل الكبير في دعم ثورة بلاده من وسيلة وحدة وخدمة أهداف إيجابية إلى مساحات لتعزيز الفوضى وتأجيج الفتنة وتصفية الحسابات سواء بين الأطراف السياسية او بين الاشخاص أو حتى بين القبائل، وهو أمر يراه أنه يعكس الواقع.
وقال في حديثه لـCNN بالعربية “المواقع الاجتماعية تعج بالعديد من الصفحات المشبوهة والحسابات الوهمية، أكيد هناك مليشيات إلكترونية تقف وراءهم هدفها نشر الكراهية والاضطرابات والرفع من منسوب التفرقة بين فئات الشعب الليبي لغايات عديدة، وما يؤسف فعلا هو أن لديهم الكثير من المتتبعين والمعجبين وأن العديد من الليبيين يصدقون ما ينشر في هذه الصفحات مما يجعلهم ينساقون وراء هذه المضامين ويتفاعلون معها لتكون النتيجة سلبية، مثلما نشاهده اليوم وما يحصل في ليبيا وهو راجع بدرجة كبيرة الى ما تبثه مواقع التواصل الاجتماعي خاصة الفايس بوك من مضامين ومعلومات”.
وأصبح الليبيون وخاصة فئة الشباب يوما بعد يوما أشد ارتباطا بالشبكات الاجتماعية، وخصوصاً تويتر و فيس بوك، حيث قفز عدد مستخدمي هذا الأخير من حوالي 360 ألف مستخدم في عام 2011 إلى حوالي مليون مستخدم العام الماضي وتعتبر ليبيا العاشرة عربيا بعدد مستخدمي فيسبوك.
وهو ما أكده كذلك محمد الشبلي أبو أحمد، مدرس بإحدى ثانويات مدينة الزاوية، الذي قال إن الفيس بوك هو المساحة الإجتماعية الاكثر استعمالا في ليبيا، وهم ما يعني أن كل خطابات العنف تمر عبر هذا الموقع، معتبرا أن العنف الافتراضي طوال السنوات الماضية مثل خطرا كبيرا وكان له دور في رسم وبلورة مستقبل الدولة، مشيرا الى أن أحد أهم أسباب استمرار العنف والفوضى في ليبيا هو المضامين الاعلامية التي تنشر على الفايس بوك:
“في ليبيا تم اغتيال عديد النشطاء والمدافعين عن حقوق الانسان انطلاقا من الشبكات الاجتماعية عندما قاموا بتتبعهم ورصد تحركاتهم انطلاقا من حساباتهم الشخصية، بالإضافة الى أعمال أخرى وجرائم، وحقيقة كل من عاش فظاعتها لا يصدق أن هذه الأعمال تم التحريض عليها وتنظيمها عبر شبكات التواصل الاجتماعي”.
وأرجع الشبلي الانفلات في وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن أغلب مستخدمي الشبكات التكنولوجية الحديثة في ليبيا هم من فئة الشباب الذي ينقصهم النضج والثقافة الكافية، ويعوزهم الاتزان، وتسيطر عليهم حالات الانفعال وهو ما يجعلهم مستعدين للاستجابة والإنجرار لأية دعوات عنف ضد الآخر المختلف سياسيا، مضيفا أن المواقع الاجتماعية تعدّ سلاح ذو حدين ويمكن أن تتحول إلى نقمة وأداة مخيفة اذا أسيئ استخدام حرية تدفق المعلومات فيها وتم تسخيرها للهدم وإثارة الفوضى.
من جهتها تقول هناء بوشناف، ليبية مقيمة بتونس، أنه بعد سقوط النظام، وبداية ظهور الأحزاب تغيرت كثيرا طريقة استخدام هذه المواقع في ليبيا ووُجهت إما في التعبئة السياسية أوالاستقطاب الاجتماعي القائم على القبلية والجهوية، أو وظفت كأدوات لبث اتجاهات لا يخلو بعضها من الكراهية والحقد والتطرف تجاه الآخر المختلف، أكثر منها أدوات للتواصل مع الآخر ومجال للنقاش حول مشاكل البلد وطرح حلول لها.
وتقول في هذا السياق “بعد أن كنا نرى دعوات واحدة ومشتركة للتعبئة في اتجاه واحد ضد النظام، اليوم الدعوات كثيرة من مجموعات ضد مجموعات، كل واحدة من أجل الدفاع عن وجودها وفرض نفسها، ومن هنا أخذت القيم السلبية مكانها في مجتمعنا وأحدثت انقساما في تركيبته دون أي رقابة قانونية أو وازع أخلاقي، فعلا أصبحت مشكلة كبيرة وظاهرة لافتة للانتباه وجب التفكير في إيجاد حلول لها”.
وإزاء المخاطر المتزايدة التي باتت تمثلها المواقع التواصلية خاصة على التركيبة الاجتماعية للمجتمع وتأثيراتها السلبية فيه، اقترح عمر الزوام تقني اختصاص كمبيوتر واتصالات بطرابلس، أن تخضع لإجراءات رقابية قانونية صارمة تضمن ألا تستخدم من أجل التحريض على ارتكاب جرائم، أو أعمال تهدد النسيج الاجتماعي الوطني، وخصوصا في أوقات الأزمات والصراعات.
وأضاف في حديثه لـCNN بالعربية، أنه في ظل شعور مستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بالأمان وببقائه بعيد عن المساءلة وعن العقوبة، فإن ذلك من شأنه أن يشجعه على مزيد استغلالها للتحريض على العنف و للتصفية الشخصية أو الحزبية الضيقة، موضحا أن ليبيا ليست استثناء من العالم، لأن سلبية وخطورة المواقع التفاعلية ظاهرة عالمية تمس جميع دول العالم.
ثورة 17/2/2011 أو الثورة الليبية التي نادى بها الشعب الليبي لبناء دولة ديموقراطية تحترم الحريات العامة والحقوق الإنسانية، ويتمتع أفرادها بالحماية القانونية.
بعد نجاح الثورة في تونس ومصر انتقلت نسائم الحرية لتهب على ليبيا، بعد أن ظهر مدى تأثير المواقع الاجتماعية في الشعوب، ومساعدتها لهم في الحصول على حريتهم، فأنشأ الناشط “حسن الجهمي” المتخصص في مجال المعلوماتية يومَ الجمعة 28 يناير صفحة على موقع الفيس بوك الاجتماعي تدعو إلى انطلاق ثورة في أنحاء ليبيا كافة يوم 17 فبراير؛ وبدأ الشبان الليبيون بتأسيس صفحات على الإنترنت والقيام بالحراك السياسي من تنظيم التظاهرات وتحريض على الثورة، وتداول بيان لـ213 شخصية ممثلة لمجموعة من الفصائل والقوى السياسية والتنظيمات والهيئات الحقوقية الليبية، يطالبون بتنحي الزعيم الليبي معمر القذافي في14 فبراير، وتم إحداث التغيير بإسقاط نظام القذافي بعد حكم دام أكثر من 42 عامًا.
وفي اليوم التالي تمت الدعوة إلى “يوم الغضب” عبر الفيس بوك، بعد تفريق عنيف نفذته الشرطة ضد اعتصام في بنغازي، ثاني أكبر مدن البلاد التي تحولت إلى معقل للمعارضة، وعلى غرار الأنظمة الأخرى حُجب الإنترنت، إلا أن الثورة نجحت في النهاية بمساندة ثورة المعلومات في إسقاط القذافي. (فتحي، 2020)
وتعاني ليبيا اليوم من ضعف الدولة وانقسامها، وتعدد الأطراف المهيمنة عليها، ومن الصراع السياسي وارتباط المؤسسات المسؤولة عن إدارة قطاع الإنترنت بحكومة الوفاق الوطني، وضعف أجهزة القضاء المتأثرة بالضغوط السياسية والأطراف المسلحة والانقسام السياسي الذي أدى إلى الانقسام في إدارة قطاع الإنترنت، إذ لا تتمتع بأي استقلالية وتعاني من تدخل الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة في عمل السلطة القضائية وفي إدارة قطاع الإنترنت، وتعاني اليوم من التدخل الأجنبي وأطماع السيطرة على النفط والانقسام ما بين حفتر وقوات حكومة الوفاق والحرب الأهلية.
“في ليبيا تم اغتيال ناشطين عديدين من المدافعين عن حقوق الإنسان، بوساطة الشبكات الاجتماعية عندما قاموا بتتبعهم ورصد تحركاتهم عبر حساباتهم الشخصية، إضافة الى أعمال أخرى وجرائم كبيرة؛ وحقيقة، كل من عاش فظاعتها لا يصدق أن هذه الأعمال تم التحريض عليها وتنظيمها عبر شبكات التواصل الاجتماعي”. (غانمي، 2016)
فمع انتشار العنف والقتل وسيطرة الجماعات المسلحة، والوضع الأمني، وهيمنة المؤسسات الأمنية، وضعف قطاع الإنترنت، وعمليات السرقة والتخريب التي طالت أجهزة ومعدات خاصة بشبكة الإنترنت أدت إلى قطع الإنترنت والكهرباء.
ففي ظل انعدام القانون، وسيطرة الجماعات المسلحة، أخذت ظاهرة الذباب الإلكتروني تنتشر لاستهداف حسابات الناشطين المنتقدة للميلشيات المسلحة، وحملات تشويه المعارضين، وتهديد الصحافيين، وتعرض بعضهم للاختفاء والاختطاف، وتوجيه الاتهامات لهم وتعرضهم للاعتقال التعسفي، وتعرض ناشطو المجتمع المدني لانتهاكات الخصوصية والملاحقة والتضييق عليهم.
“يوصف قطاع الاتصالات في ليبيا بأنه قطاع عام بالأساس، وذلك في ظل غياب القطاع الخاص. وبالنظر إلى انقسام المؤسسات وانهيار دولة القانون، فإن الإنترنت يخضع للقوى المهيمنة على الأرض. ومن الناحية التقنية تتركز أهم عناصر البنية التحتية لدى الجهات الحكومية بما فيها الأجهزة الأمنية. وفي الوقت ذاته، تمتلك الجماعات المسلحة المرتبطة بـ”حكومة الوفاق الوطني الليبية”، على سبيل المثال، أجهزة مراقبة وتنصت وتجسس على المراسلات الخاصة والاتصالات الهاتفية.
فمنذ سنة 2015، تعرضت بعض مقرات النيابة العامة والمحاكم في ليبيا إلى ما لا يقل عن سبع هجمات مسلحة، فيما تكررت عمليات خطف واحتجاز قضاة بسبب ملفات جنائية بين أيديهم. وحتى عام 2020، قتل ثلاثة قضاة وتعرض آخرون للتعذيب، فيما يبقى المحامون الحلقة الأضعف، كما هو الحال في قضية المحامية سهام سرقيوة التي لا يزال مصيرها مجهولًا إلى اليوم رغم كل المجهود المقدم لتحديد مصيرها. كما تعرضت المحامية حنان البرعصي والناشطة في حقوق الإنسان والمرأة إلى حادثة مشابهة أودت بحياتها نتيجة انتقاداتها الصريحة والجريئة للانتهاكات المرتكبة على يد الميليشيات المنتشرة في مدينتها، إذ تم اغتيالها مؤخرًا في وضح النهار في أحد شوارع بنغازي.”. (العربي)
—
التعليقات