الخميس - الموافق 13 نوفمبر 2025م

الثورة والحرية… الجزء الثالث “الجذور التاريخية للتفكير العقلاني الحر” للكاتب / محمد السني

 

1525614_1384696948450925_1423039279_n

ألقينا الضوء سابقاً على “بريق شعار الحرية” و “ولادة مصطلح الحرية”، في مقالتين منفصلتين، وأوضحنا كيف كان غياب الحرية سبباً أساسياً من أسباب بريق شعار الحرية وجاذبيته لدى جموع المواطنين، وأحد أهم أسباب إندلاع الثورة المصرية، وخاصة في موجاتها الكبرى في 25 يناير 2011م، و30 يونيو2013م، وتطرقنا لمسيرة هذا الشعار منذ إندلاع الثورة حتى وقتنا هذا، أي عشية البدء في اجراءات الانتخابات البرلمانية، وإتمام خارطة المستقبل، وبينا كيف أن الاستغلال الجماعي الأول عن طريق العبودية، هو من خلق الفوارق الطبقية، وقسم البشرية إلى طبقة أسياد وطبقة عبيد، وسلب حرية جزء من البشر، وقصر الحرية على جزء آخر، وأوجد “مصطلح الحرية” إلى الوجود لأول مرة في التاريخ، وبذلك يكون تاريخ اختفاء حرية البعض متزامناً وملازماً لتاريخ الإستغلال منذ أزمنة سحيقة حتى الآن، وبذلك نشأ المفهوم الأول للحرية (المفهم التقليدي)، ولأن مشكلة الحرية الإنسانية لها حيويتها المتجددة دائما، فقد كانت الحرية ولا تزال تثير جدلاً طويلاً بين المفكرين حتى عصرنا الحاضر، ولا زلنا نتساءل مثلما كان القدماء يتساءلون عما إذا كان الإنسان في حقيقة أمره يتصرف مدفوعاً بفعل قوى خارجية تسيره، أم أنه كائن حر يتصرف من وحي عقله وإرادته الحرة؛؛؛ وهو موضوع مقالتي هذه.

بعد وإستقرار ورسوخ نظام العبودية في أغلب المجتمعات البشرية، تشكلت نظم اجتماعية وسياسية اتسمت بالطبقية الحادة، وانقسمت المجتمعات البشرية في تلك الحقبة إلى طبقتين رئيسيتين وهما طبقة الأسياد وطبقة العبيد، وبعض الفئات الوسطى المتهالكة والهامشية، ومن ثم تكونت ثقافات وعادات وتقاليد ومفاهيم وقيم أخلاقية تعبر عن عصر العبودية، وعبر عنها في البداية نظريات فكرية وفلسفية آمنت برسوخ الإستغلال، وأضبغت عليه صفة الحتمية، والقداسة الإلهية، ولإنها أفكار ونظريات تعبر عن الطبقات الإجتماعية السائدة آنذاك، وهم طبقة الأسياد أصحاب المصلحة في ثبات تلك الأوضاع الظالمة والبشعة، فكان أغلب تلك النظريات والأفكار يدور في فلك تثبيت وشرعنة الإستغلال، وهي ما عرفت بنظريات “الحتمية”، واتسمت جميع الحضارات التي قامت على الفائض الاقتصادي من نظام العبودية، بنفس السمات والخصائص، مثل الحضارة الفرعونية، والحضارة الفاريسية، وحضارة بلاد الهند، والحضارة اليونانية… وغيرها.
ففي الثقافة العربية كانت كلمة (حر) تعادل (نبيل) أو (شريف)، وقد كان استخدام (حر) بمعنى شريف (حسن) شائع الاستعمال في اللغة العربية المبكرة، وكانت كلمة (آزاد) في الفارسية في إيران تعني كون الإنسان حراً مرتبطاً بولادته في أسرة تنتمي إلى فئات اجتماعية متميزة، لأن ذلك متعلق بالبنية الاجتماعية للمجتمع الفارسي الذي كان متبعاً فيه النظام الهرمي الذي يفاضل بين الطبقات، وكان العرب ينسبون كافة الرذائل إلى الرقيق، ولعل ذلك عائد إلى اقتران الرق بالذل والهوان الذي ينم عن الضعف والخور بينما يكون الافتخار بالحرية عائد إلى القوة والسطوة التي تمنع الإنسان عن الوقوع في مثل هذا المصير البائس، ومن هنا ظل مفهوم الحرية في الثقافات القديمة والثقافة المصرية والعربية محتفظاً بمعناه البسيط الذي يدل على الحالة المقابلة للرق ولم يطرأ عليه أي تغيير من حيث الشكل والمضمون حتى بدايات القرن التاسع عشر، وإستمرت تلك المجتمعات في أوحال تلك المرحلة طويلاً، مما يجعلنا نركز في مقالتنا هذه على منبع ومنشأ الحضارات التي تطورت تطوراً اجتماعياً طبيعياً عن طريق الثورات الاجتماعية التقدمية، التي أوجدت المفاهيم الأكثر تقدماً من مفهوم عصر العبودية، وبالتحديد الحضارة اليونانية، حيث يعتبر فلاسفة اليونان القدماء المنبع الأول للتفكير العقلاني الحر لدى الغرب، والمنشأ الأصيل للفلسفة، باعتبارها حضارة إنسانية ملك جميع البشر، قبل أن تكون حضارة غربية، وقد إمتدت تلك الحقبة قرابة ألف ومائتي عام، ومرت بمدارس فلسفية عديدة، تنوعت وتطورت تبعاً لتطور وتنوع مراحل عصر العبودية لديهم.
تمثل الإتجاه الأول في الحضارة اليونانية القديمة في أتباع فكرة “الحتمية التامة”، التي واكبت استقرار ورسوخ نظام العبودية، وهيمنة الأفكار والفلسفات والثقافات التي تعبر عنه، وتتعايش مع سماته وخصائصة اللاإنسانية، والتي تنكر حرية الإنسان تنكراً تاماً، وتجعل الإنسان خاضعاً في كل أفعاله لحتمية قوى خارجية تسيره وتدبر كل أموره، وضم هذا الاتجاه الفلاسفة والمفكرين الطبيعيين الأوائل، والرواقيين، والفيلسوف سقراط (469ـ 399 ق.م)، أحد أشهر الفلاسفة في التاريخ، والذي كرس حياته تمامًا للبحث عما أسماه الحقيقة والخير، ولم يترك سقراط أية مؤلفات، ولكن عرفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلاميذه أمثال المؤرخ زينوفون، والفيلسوف أفلاطون، وأرسطو، وولد سقراط وعاش في أثينا، وكان يؤمن بأن الحكام يجب أن يكونوا من أولئك الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم، وكان سقراط يؤمن بأن الأسلوب السليم لاكتشاف الخصائص العامة هو الطريقة الاستقرائية المسماة بالجدلية، أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة، وقد أخذت هذه العملية شكل الحوار الجدلي الذي عرف فيما بعد باسم الطريقة السقراطية.
ومثل الإتجاه الثاني أتباع الحتمية الرقيقة (المثالية)، التي تجمع بين الحرية الإنسانية والحتمية، وكان أشهرهم أفلاطون (423 ـ 348 ق.م)، وتميز بمثالية أفكاره وآرائه، وعرف أفلاطون الحرية بأنها وجود الخير، والإنسان الحر هو من تعود أفعاله على المجتمع وعليه بالخير، إلا أن جل اهتمام أفلاطون تركز على قضية العدل، وإعطائه الأولوية في النظام السياسي والأخلاقي الذي كرس جهدة لتحديد معالمه، وعبر عنه في كتابه “جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة”، ونكاد لا نجد لمفهوم الحرية أثراً في منظومته الأخلاقية والسياسية، فالمجتمع السياسي الفاضل هو المجتمع السياسي العادل، ويتحقق العدل في المجتمع من خلال تكامل جهود أفراده، وقيام كل فرد بالوظيفة الاجتماعية التي تتناسب مع مهاراته واستعداداته النفسية والجسدية، ومن هنا اعتبر أفلاطون الموارد المتاحة على مستوى المجتمع السياسي، القاعدة الأساسية لتحقيق مجتمع سياسي عادل.
والإتجاه الثالث تمثل في المؤيدين للحرية الإنسانية الخالصة، الذين ناصروا الحرية وأنكروا كل أشكال الحتمية، وهم السفسطائيون، وأرسطو، والأبيقوريون، ولقد آمن هذا الفريق من مفكري اليونان القدماء بأن الإنسان يملك القدرة على الاختيار الحر الواعي لبديل مناسب له من بين البدائل المتاحة، وأنه مسئول مسئولية كاملة عن هذا الاختيار، ونادوا بهدم كافة القيود والمعوقات الخارجية التي من الممكن أن تعوق نشاط الإنسان الحر، ثم قاموا بعد ذلك بتشييد نسق للحرية الإنسانية قائم على الإيمان الكامل بقدرة الإنسان التامة على تشييد واقعه وشخصيته الحرة الواعية تشييداً حراً، لقد رفض هذا الفريق الحتمية لأنه اعتبرها مبطلة ابطالاً تاماً للمسئولية الأخلاقية، وتجعل أشكال اللوم والمديح والنصح والتربية نفسها عبثاً لا طائل منه، ويعطى مبرراً قوياً للمجرمين ليتنصلوا من المسئولية والعقاب .
جاءت السفسطائية تعبيراً عن النزعة الفردية التي كانت آخذة في الانتشار آنذاك، والتي واكبت تطور ورقي المدينة، وتأكيداً قوياً على الحرية الإنسانية، التي يوظف فيها الإنسان كل قواه ومهاراته لتحقيق نجاحه، وقد تأثر السفسطائيون بالحضارة المادية عند الفرس، وخاصة بعد أن استطاع الفرس أن يصلوا إلى بلادهم البعيدة إلى اليونان، فرغم هزيمة الفرس إلا أن اليونانيين خرجوا من الحرب منهوكي القوة، وعزموا على تعلم العلم والمعارف التي مكنت الفرس من ذلك، وكانت السفسطائية ثورة عنيفة على الفكر الطبيعي السابق عليها، وفي الوقت ذاته فلسفة إنسانية خالصة تهتم بدراسة الإنسان ليس بوصفه عقلاً جامداً، بل كإرادة فعالة حرة تسعى إلي تأكيد ذاتها واثبات نجاحها في كافة المجالات العملية في هذه الحياة، وامتد السفسطائيون بهذه الحرية إلي الدين والسياسة والفنون والأخلاق، وجعلوها حرية قائمة على العقل الإنساني، وطالبت السفسطائية بتوفير الحرية لإرادة الذات الفردية من أجل إصلاح الحياة البشرية والقضاء على الظلم والجور وكل صور استغلال البشر القديمة الدينية والطبيعية والفكرية والسياسية، فمع الفردية تبرز العقلانية واضحة ناصعة، وفي بروز العقلانية تتحقق الحرية والاستقلال، لقد نادت السفسطائية بأن حياة الإنسان ملك خاص به يفعل بها ما يشاء، كما أن أفكاره ومعرفته ومعتقداته وأذواقه ورغباته كلها ملك له أيضا، وبامكانه ألا يعترف باي سلطة أخرى، ولا بمعيار آخر لسلوكه، والتمتع بهذه الأشياء المتاحة أمامنا هو الاستغلال الأمثل للحياة.
وجاءت مناداة السفسطائية إلي إتباع قانون الطبيعة ونبذ العرف والتقاليد المتوارثة تجسيداً قوياً لإيمانها بالحرية الإنسانية، ففي إتباع قانون الطبيعة حفظ للحرية الإنسانية مما يحيق بها من إجحاف مصطنع خارجي، لأن الطبيعة في نظرها هي التي تتيح للفرد أن يتصرف بطريقة حرة وصادقة، متبعاً البحث الحر عن المنفعة، ومستقلاً عن قيود القانون الوضعي التي تضر بهذه الحرية، ولذلك دعوا إلي اسقاط كافة القيود المفروضة على البشر والمكبلة لحريتهم الطبيعية من قبل الأعراف، بل وطالبوا بإلغاء قانون الرق لأن الطبيعة قد خلقت الناس متساوين، ونادى بعضهم إلي الأخوة العالمية الشاملة، ونشر السلام والأمن بين سكان العالم أجمع، لذلك كانوا أول من انتصف للحرية في العالم القديم، فأصبحوا بذلك قادة للتنوير في المجتمع اليوناني المتزمت الذي كان يقدس الفروق الطبقية.
كانت الحرية التي نادى بها السفسطائيون حرية مسئولة، فإذا كانوا قد اعتبروا الإنسان الحر هو الإنسان الذي يسلك وفقا لطبيعته الإنسانية الخاصة، وغير الحر هو ذلك الذي يخضع لأشكال من الجبر الخارجي، مثل الأعراف المصطنعة أو الأوهام والخرافات والغيبيات، فلم تكن هذه الحرية تساوى عندهم الفوضى، بل حرية مقيدة بالمسئولية الكاملة عن الأفعال، ولقد نظرت السفسطائية إلي الشخصية الإنسانية على أنها من تشييد الإنسان وحده، وأنها مكتسبة من خلال إختياراته الحرة المستقيمة، فنحن الذين نبني شخصيتنا بأنفسنا، والقدر لا وجود له أصلاً، وكل أفعالنا نابعة من ذواتنا الحرة، بذلك كان السفسطائيون في إيمانهم بالحرية الإنسانية الرواد الأوائل لأفلاطون وأرسطو والمدارس الفلسفية التالية، ولم يعد ممكنا للفكر اليوناني بعدهم أن يتجاهلها ويعود إلي الانكباب على دراسة الطبيعة وحدها كما كان ويهمل الإنسان، بل واصلوا السير خلف السفسطائية في نفس الطريق.
وأعتبر السفسطائيون الرواد العظام لأرسطو (384 ـ 322 ق.م)، ولا يدين أرسطو بشيء كثير إلي أفلاطون في التصور الذي يطرحه للحرية الإنسانية، حيث كان أفلاطون يشغله في المقام الأول التوصل إلي تعريف شامل مناسب للمدينة المثالية (الفاضلة) فلم يول سوي عناية بسيطة للفعل الفردي، في حين اهتم السفسطائيون اهتماماً عظيماً بتحليل (علية الفعل البشري)، فجاء أرسطو فخرج على مثالية استاذه المتطرفة هذه، وانتهج نهجاً واقعياً (غائياً) يهتم بالفردي والكلي على حد سواء، وبإنصاف الفرد وتحريره من كافة اشكال الحتمية التي قال بها السابقون عليه، فانتقد الحتمية الطبيعية التي قال بها السابقون على سقراط، وهاجم حتمية سقراط العقلية، ورفض شمولية ومثالية دولة أفلاطون، وقلص دور الإله في الكون ليقضي على الحتمية اللاهوتية، وكان الإنسان في نظر أرسطو الكائن الوحيد الذي يتمتع بنفس فاعلة عاقلة حرة قادرة على التعميم وعلى الابتكار، وسعادته وفضيلته في حياته ترتكزان فحسب على عمل عقله وحده، وليس على ضروب الحظ أو الضرورة، أو على الوهب الإلهي، صحيح أن الطبيعة تقدم الإستعدادات الأولية التي تساعد على تحققها، إلا أن الإنسان هو المشيد الأعظم لسعادته، لذلك يطالبنا أرسطو بأن نخطط لحياتنا، لأن حياة غير مخطط لها لا تستحق الإلتفات إليها أصلاً.
نظر أرسطو إلي الإنسان على أنه العلة الفاعلة لأفعاله في هذا العالم، فهو مبدأ سلوكه، وعلة لمعلولات ممكنة الحدوث، بل هو علة في إحداث كل أفعاله، وتقوم المسئولية الإنسانية على هذه الأفعال التي يكون الإنسان العلة الفاعلة والمختارة لها، ونفس الإنسان هي المبدأ المحرك الحر في رأي أرسطو داخل الإنسان الذي يحرك البناء العضوي من خلال التروي والاختيار العملي، لكي ينجز هذا البناء الأفعال المؤدية إلي تحقيق سعادة الإنسان المشبعة لمطالب كل من العقل والشهوة على حد سواء، وتتجسد هذه الفاعلية الإنسانية الحرة في رأي أرسطو فيما يتخذه الإنسان في حياته من اختيارات حرة، وكان هذا القول رائداً في فلسفة الفعل الإنساني، واعتبر تصور أرسطو للإختيار المتعمد أول محاولة لصياغة مفهوم الإرادة كمفهوم محدد ومميز عن العقل الذي كان لدي سقراط، حيث عرف أرسطو الاختيار المتعمد بأنه ” فعل ما يكون مصدره العلي داخل الإنسان نفسه، ويعرف هذا الإنسان كل الجوانب والملابسات الجزئية التي يقع فيها هذا الفعل”، وتشير كلمة ” المصدر العلي” هنا إلي عنصر الرغبة، لذا كان الاختيار لدي أرسطو قائماً على مقومي العقل والرغبة معا، ويعتبر اعتماد الاختيار الحر على الرغبة والعقل أبرز ما يضيفه أرسطو إلي الفكر السابق عليه، وعلق أرسطو صحة الاختيار البشري بشرط أن تكون الرغبة خيرة والاستدلال عليها أيضاً خير”إن العقل بمفرده ليس كافياً للفعل الحر”، لأنه بذاته لا يحرك شيئاً، ويحتاج إلي الرغبة كجانب دافع له على الفعل، كما أن الرغبة بدون العقل مجرد إندفاع أهوج وليس إختياراً واعياً حراً، لذلك تحدث أرسطو عن الاختيار الحر بوصفه شيئاً أكثر من مجرد الرغبة وحدها أو مجرد التروي العقلي وحده فقال عنه أنه “رغبة مسترشدة بتروي عقلي في إختيار ما يناسبنا مما في إستطاعتنا فعله”، وبذلك يكون الاختيار المتعمد قاصر على بني الإنسان وحدهم دون بقية الكائنات، والتي يقوم عليه مسؤولية التكليف الأخلاقي والقانوني للبشر، لذا كانت الفضيلة والرذيلة أموراً خاصة بالبشر وحدهم، وهذا ما جسده أرسطو في تعريف الفضيلة بأنها “ذلك الذي ينبغي أن يختار من أجل ذاته اختياراً متروياً عقلياً كالعدالة والسعادة، أي هي إختيار الوسط الذي يناسبنا من بين البدائل المطروحة أمامنا، فهي التي تحقق توازننا النفسي مشبعة لكل من العقل والرغبة معا.
كان أرسطو إذن مناصراً قوياً للحرية في الفكر اليوناني، اعتبر الإنسان مختاراً حراً لأفعاله، وغير خاضع لأي صورة من صور الحتمية، كما كان الإنسان لديه مسئولا مسئولية كاملة عن إختياراته الحرة ومحاسب أخلاقياً وقانونياً عليها، ومن ثم وضع أرسطو العقل الإنساني فوق الطبيعة، وجعل هذا العقل هو المميز للإنسان، وهو أساس التكليف والمسئولية التي تكون قاصرة بمعناها الكامل على الإنسان وحده، لقد كان الإنسان لديه المسئول عن أفعاله الحرة وعن بناء شخصيته التي يجسدها في إختياراته المختلفة، فردود أفعالنا تنبع من نوعية شخصيتنا، ونحن مسئولون عن هذا الرد، وفي الوقت نفسه عن شخصيتنا، وفي رأيه لا تقوم الأخلاق والمسئولية والمحاسبة إلا على أفعالنا المختارة الحرة، على أفعالنا التي نصدرها ونفعلها بناء على تقريرنا العقلي، وعلى رغبتنا الباطنية في فعلها .
ساهمت المدرسة الفكرية الأبيقورية بشكل كبير وهام في تاريخ الفكر اليوناني، ومثلت مرحلة متطورة في الفكر اليوناني القديم، فقد كانت صوتاً عالياً مناصراً للحرية الإنسانية، ومهاجماً للأنساق الحتمية التي تنكرها، ودعم زعيمها أبيقور القول بتمتع الإنسان بحرية إختيار أفعاله، وبالتالي مسؤوليته عن تلك الأفعال، وأعتبر أن موقف المفكر الحتمي موقف يشل صاحبه، ويجعله عاجزاً حتى عن مجرد الدفاع عن نفسة، وتمسك أبيقور ومعه مدرسته بمبدأ حرية الإرادة الإنسانية، ومن أجل ذلك أقصى أي علل خارجية (طبيعية كانت أو إلهية) عن التدخل بأي بشكل في إملاء الفعل الإنساني، وجعل مصدر هذا الفعل العقل الإنساني وحده، ونظر أبيقور إلي مبدأ الحرية هذا على أنه طوق النجاة للخروج بالإنسان من الحتمية المفضية إلي الشلل، ومن دائرة الأقدار، فلا ينطلق الإنسان في كل أفعاله إلا وفقاً لإرادته هو الحرة، وانتهج نزعة مادية فردية عقلية لكي يفسح مكاناً في نسقه الفلسفي للحرية الإنسانية، وذلك من أجل أن يحفظ على الإنسان هدوئه وسلامه القائمان في عقله، ويحميه من الخوف من قوى عديدة لا تحصى، وطالب الإنسان بأن يجاهد للإبقاء على حياته الفردية متحررة من الاضطرابات والمخاوف، واعتبر أبيقور الخوف من الموت ومن الآلهة من الأساطير التي اصطنعتها السلطات السياسية لترسيخ أقدام حكمها المستبد، وحرض العامة على الثورة عليها لتحسين أحوالهم.
وبذلك لا يكون سلوك المرء محتوماً عليه بشكل صارم بواسطة القوى الخارجية لدى الأبيقورية، بل أن الدافع والميل الباطني هو الذي يدفعنا دائماً بشكل حر وتلقائي إلي أفعالنا، فلا توجد في الإنسان أي سلطة أخرى تعلو على سلطة إرادته العقلية الحرة، وينظر إلينا أبيقور على أننا كائنات عاقلة لدينا القدرة العقلية الحرة على أن نفكر ونتحكم في رغباتنا، ونستحدث داخلياً إتجاهاً نقدياً نحوها فنختار إشباع ما نريد، ونرفض إشباع مالا يروق لنا، ويقيم أبيقور المسئولية على قدرتنا على تعديل رغباتنا هذه في ضوء غاية معينة نقدرها تقديراً عقلياً وهي السعادة، في حين تسقط مسئوليتنا عن الأفعال التي نفعلها تحت قهر القوى الاجبارية الخارجية أو قوى إنفعالاتنا الباطنية التي نفقد السيطرة عليها، وحتى عندما طالب أبيقور بضرورة وجود سيادة قضائية للدولة على الشعب، اشترط أن تكون هذه السيادة بدرجة معينة تسمح بقيام أقصى مستوى من الحرية الفردية، ويجعل سعادة المدينة متوقفة على وجود توافق تكاملي بين إرادة الفرد وإرادة القانون، لأن الإنسان لا يولد حراً لدى الأبيقورية، وإنما يصل إلي الحرية التي هي اختيار يختاره هو وحده وليس قانوناً للطبيعة، ولن يصل الإنسان إلي هذه الحرية إلا بالاتفاق مع غيره من بني البشر على قوانين تضبط العلاقات المتبادلة، ولذلك أعتبرت الحضارة اليونانية القديمة وما أنتجته من مدارس فكرية متعددة ومتتالية ومتواصلة، حضارياً وفكرياً وثقافياً، قرابة ألف ومائتي عام، المنبع الأساسي للتفكير العقلاني الحر لدى الغرب فيما بعد.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك