ألقينا الضوء سابقاً على بريق شعار الحرية، وولادة مصطلح الحرية، والمفهوم الإغريقي للحرية، في ثلاث مقالات منفصلة، وأوضحنا كيف كان الاستبداد سبباً أساسياً من أسباب إندلاع الثورة المصرية، وأن غياب الحرية هو ما أدى إلى بريق شعار الحرية وجاذبيته لدى جموع المواطنين، ابان الثورة المصرية، وخاصة في موجاتها الكبرى في 25 يناير 2011م، و30 يونيو2013م، وتطرقنا لمسيرة هذا الشعار منذ اندلاع الثورة حتى وقتنا هذا، أي عشية البدء في إجراءات الانتخابات البرلمانية، وإتمام خارطة المستقبل، وأوضحنا كيف أدى الاستغلال الجماعي الأول عن طريق العبودية، إلى خلق الفوارق الطبقية، وتقسيم البشرية إلى طبقة أسياد وطبقة عبيد، وسلب حرية جزء من البشر، وقصر الحرية على جزء آخر، وأوجد “مصطلح الحرية” والمفهوم الأول للحرية “المفهوم البسيط” إلى الوجود لأول مرة في التاريخ، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية خلال مراحل تطور الحضارة الإغريقية، باعتبارها أهم روافد الجذور التاريخية الأولى للتفكير العقلاني الحر، وسوف ألقي الضوء في مقالتي هذه على تطور مفهوم الحرية لدى الحضارة الرومانية، باعتبارها أحد أهم الجذور التاريخية للحضارة الغربية، والجسر التاريخي والحضاري الأساسي للعبور إلى مستنقع العصور الوسطى لدى الغرب، حيث مثلت الإمبراطورية الرومانية النموزج الكلاسيكي الأمثل لعصر العبيد، وهو النظام الاجتماعي الأكثر ظلماً وقسوة ووحشية في التاريخ الإنساني على الإطلاق.
عمرت الدولة الرومانية ثلاثة عشر قرنا من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن السادس بعده، وانبثقت حضارة روما القديمة عن مجتمع زراعي صغير في شبه الجزيرة الإيطالية، حيث وجدت في البداية ظواهر مشابهة لما وجدناه في المرحلة الإغريقية، فقد كان للعائلة رئيس يمتلك سلطة مطلقة على الأشخاص والممتلكات، ثم أصبحت ظاهرة الرق أساس النظام الإقتصادي، واقتصرت كافة نواحي الحقوق السياسية والمدنية على الأحرار، وتدرجت تلك الحريات والحقوق بتدرج الطبقات الاجتماعية، بالإضافة إلى التمييز بين المواطن الروماني وبين الأجنبي، حيث كان يخضع كل منهما لقانون خاص، وشكلت الممالك الرومانية التي استمرت حتى عام 509 ق م، وهو نفس تاريخ نشأة الجمهورية الرومانية، التي توسعت من مدينة روما إلى قوة كبرى حكمت كافة حوض البحر الأبيض المتوسط، وتمكنت الجمهورية الرومانية خلال أول 200 سنة من تاريخها، عبر التحالفات والحروب في آن واحد، من توسيع نفوذها وبسط سيطرتها على شبه الجزيرة الإيطالية بأكملها، ثم استولت بحروب متكررة على شمال أفريقيا وجنوب فرنسا، ومع نهاية القرن الأول قبل الميلاد، كانت جمهورية روما قد ضمت باقي فرنسا الحديثة واليونان ومعظم بلدان شرق المتوسط، وكان يرأس حكومة الجمهورية الرومانية قنصلان ينتخبان سنوياً باقتراع عام يشارك فيه جميع المواطنين الأحرار، ويأخذان بمشورة مجلس الشيوخ الذي يتألف من مسؤولين ينتخبهم المواطنون الأحرار فقط، وتميز المجتمع الروماني بالطبقية الحادة والصارمة، لذلك تأثر تطور نظم الحكم وإدارة الدولة كثيراً بصراع تاريخي بين طبقتي الباتريكيان (المؤلفة من الأرستقراطيين وملاك الأراضي) والبليبس (عامة الناس)، وكانت المناصب الكبرى في الجمهورية الرومانية حكراً بحكم الدستور على أفراد طبقة الباتريكيان، وقد سمح الحراك الإجتماعي البطيء والاضطرابات الاجتماعية المتقطعة والمتفرقة وبعض ثورات العامة، بتغيير نسبي في مراكز السلطة عن طريق صعود بعض أفراد العامة إلى سلم الطبقات العليا، كما أدت تلك الثورات إلى تطور حكام الجمهورية بمرور الوقت، وأوجد تقاليداً وأعرافاً تتطلب من مسؤولي الدولة تقديم بعض الخدمات العامة في ظروف الحرب والسلام، ولا زالت العديد من الأنظمة التشريعية الرومانية (التي تم توثيقها لاحقاً في مدونة جوستنيان) قائمةً ومتبعة في أوروبا ومعظم أنحاء العالم، لكن وفي الآن ذاته، كانت هناك سلسلةٌ طويلة من التوترات الداخلية في الدولة أوقعتها في حروبٍ أهلية كبيرة، وصلت أقصاها باغتيال يوليوس قيصر وانتهت بانهيار الجمهورية وقيام الإمبراطورية مكانها عام 27 ق م، هذه الامبواطورلة التي بلغت من القوة والاتساع حتى سيطرت على مقدرات العالم القديم الغربي والشرقي، وتمكنت السلطة المركزية من إحكام سيطرتها على هذه المساحات الضخمة وذلك بوضع قوانين تناسب ذلك العدد الكبير من الشعوب، كما تمكنت الإمبراطورية من استيعاب شعوب ذات حضارات قديمة إلى جانب شعوب حديثة المولد، فازدهرت الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأهل هذه الإمبراطورية فشهدت بذلك أزهى عصورها.
وقد سبق الرومان غيرهم في شرعنة الاستغلال والعبودية، فدونوا العادات والتقاليد والأعراف المرعية في قانون الألواح الإثني عشر 450 ق م، لكي تثبت وتستقر ويخضع الجميع لأحكامها، وذلك رغم أن بعض الفقهاء الرومان قد نظروا إلى الرق نظرة غير مشجعة، ورأى بعضهم أن نظام الرق مضاد للطبيعة، وقد أكد (اولبيان) أنه لا يجوز في القانون الطبيعي أن يولد الناس إلا أحراراً، وأن العبيد وإن عدوا موجودين في نظر القانون الوضعي فإنهم ليسوا موجودين في نظر القانون الطبيعي، الذي يقرر أن الناس جميعاً متساوون، ومن جانب آخر اعتقد المشرعون الرومان أن الطبيعة جاءت بمبادئ محددة يجب أن تعبر عنها القواعد القانونية الوضعية، فالقانون الطبيعي طبقاً لما ذهب إليه هؤلاء، هو المفسر لمبادئ العدالة العامة باعتبارها المبادئ الطبيعية الخالدة التي تحتم احترام الإتفاقات وتنسجم مع قيم العدالة في المعاملات بين الأفراد وحماية القاصرين من الأطفال وحماية النساء والاعتراف بالمطالب التي تقوم على صلات الدم والقرابة، وأدت هذه المبادئ إلى ظهور تنظيم قانوني حطم سلطة الأب المطلقة على ابنائه، ومنحت المرأة المتزوجة مركزاً قانونياً يقترب من حقوق الزوج فيما يتعلق بإدارة الأملاك أو تربية الأطفال.
ويعتبر كل من “شيشرون” و “سنيكا” أبرز المفكرين الذين إهتموا بجوانب عامة ترتبط بفكرة الحريات وحقوق الإنسان، فشيشرون (106 ـ 43 ق م) أسهم في الحوار حول القانون الطبيعي، ورأى إنه مرادف للعقل وأن العالم هو عالم واحد له قانون واحد صالح لجميع الأمم وفي مختلف الأوقات لإنه ذو طبيعة واحدة، وأن غاية هذا القانون تحقيق العدالة والفضيلة مادام قد انبثق عن طبيعة إلهية عادلة وفاضلة، وإن الأفراد متساوون في ظل هذا القانون جميعاً بالحقوق القانونية وبالمساواة أمام الله وأمام قانونه الأعلى، وهو ما تبناه الفكر المسيحي بعد ذلك، وكان هدف شيشرون من كل ذلك إعطاء الأفراد شيئاً من الكرامة التي هي من أهم حقوق الإنسان، فحتى العبيد يجب أن يكون لهم حصة منها لإنهم بشر وليسوا مجرد آلات بشرية حية.
أما سنيكا (4ق م ـ 65م) فعبر عن الفكر الرواقي في السنوات الأولى من العصر الإمبراطوري، وكانت أفكاره تعبر عن صبغة مثالية ودينية واضحة، وكان يعتقد أن الطبيعة هي التي تقدم الأساس الذي يعيش في ظله الأفراد وأقر بمبدأ المساواة الإنسانية، إذ أن الاختلافات بين السيد والعبد هي مسألة اصطلاح قانوني وأن الحظ السيئ وحده الذي يجعل الإنسان عبداً، وعليه فقد رفض سنيكا كما رفض شيشرون والرواقيون الأوائل الإدعاء بأن البشر غير متساوين بالطبيعة، واعتبر سنيكا أن الاعتماد على الطاغية يعد الخيار الأفضل إلى حد كبير من الاعتماد على الجماهير، إذ أن جمهرة الشعب هي من الشر والفساد بحيث تغدو أكثر قسوة من الحاكم الطاغي، وهو ما نعتبره إمتداد للفكر الاغريقي في مرحلته الأولى التي عبر عنها المفكرون والفلاسفة الطبيعيين، والرواقيون، وسقراط وغيرهم، مما يجعل أفكار الفلاسفة الإغريق اللاحقين أمثال السوفسطائيين، وأرسطو، والإبيقوريين، أكثر تقدماً وتطوراً من تلك الأفكار رغم أسبقيتها، ويرجع ذلك لأسباب كثيرة تاريخية واجتماعية وحضارية مرتبطة بمدينتي أثينا وإسبارته كما أسلفنا في مقالنا السابق.
ودار صراع طويل بين الفلاسفة والحكماء، وأصحاب النفوذ الذين يريدون حكماً أقرب إلى الحكم الإسبارطي الإغريقي، منه إلى الحكم المدني، الذي يؤمن بقيمة الإنسان وجوهر الحياة، مما عمق الاستغلال وقهر العديد من الطبقات الدنيا وفي مقدمتهم العبيد، إضافة إلى السلم الطبقي الصارم الذي أغضب فئات اجتماعية عديدة، فكان رجال الأعمال يألمون لحرمانهم من عضوية مجلس الشيوخ، والأثرياء من العامة يألمون لحرمانهم من أن تكون لهم حقوق رجال الأعمال، والفقراء يألمون لفقرهم وحرمانهم من الحقوق السياسية وتعرضهم للاسترقاق إذا عجزوا عن الوفاء بما عليهم من الديون، رغم أن المواطن الروماني الحر تمتع بحماية القانون لشخصه، وملكه، وحقوقه، وأمنه على نفسه من التعذيب أو العنف في أثناء المحاكمة، وذلك في حدود الحفاظ الشديد على أسس النظام الطبقي الصارم، فقد كان المواطنون هم أبناء إحدى القبائل الثلاثة الأصلية في روما، أو الذين تبنتهم إحدى هذه القبائل، وأن المواطنين هم جميع الذكور الذين تزيد سنهم على الخامسة عشرة، والذين لم يكونوا أرقاء أو غرباء، مضافًاً إليهم جميع الغرباء الذين منحتهم روما حق المواطنة فيها، ومن المعلوم أن المجتمع الروماني في مختلف الأزمان التي مر بها كان على طبقات شبيهة بالتدرج الطبقي الذي عند الاغريق من قبل، فطبقة الحكام هي الأولى في التدرج، تليها طبقة الاشراف ومن ثم طبقة المواطنين وأخيراً طبقة العبيد، وقد أوغل القانون الروماني في ترسيخ مفهوم الطبقات إلى الحد الذي منع بعضاً من الحقوق السياسية لطبقات المجتمع المتدنية، وقد تم تقسيم الفئات الاجتماعية وفق أسس اقتصادية محضة، حسب قيمة ما يملكون مقوماً بالعملة الرومانية (الآس) وهي عملة رومانية قديمة من النحاس، وتبدأ من الذين يملكون 100.000 آس، وتنتهي عند هؤلاء الذين يملكون 11.000 آس، وخصص القانون لطبقتي الأشراف ورجال الأعمال (الطبقتين الممتازتين) 98 صوتاً داخل الجمعية التشريعية المئوية، وهي أغلبية أصوات الجمعية كلها، ومن أجل هذا فإن الطبقات الدنيا قلما كانت تقترع، وكان نظام الاقتراع هو النظام المباشر أي أن المواطن كان يعطى صوته بنفسه.
أما من جهة الحقوق الاقتصادية، أقرت القوانين النافذة للملكية الفردية بشكل مطلق، وفي بعض الأزمان تم تحديد الحد الأعلى للملكية لبعض الفئات العليا، ليس بغرض تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن لحصر التميز والصدارة الاجتماعية لبعض الفئات السائدة والحاكمة آنذاك، أو لتحقيق بعض التوازن الاقتصادي والسياسي في المجتمع، وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد، واعتبر الوالد ولياً على الأسرة، وإذا مات ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث أكبر الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة، ولكن بشكل عام أخذ سلطان الأب على أبنائه يضعف كلما ازداد سلطان الحكومة على الأفراد، فحل التعاقد والقانون محل القرابة والمكانة الاجتماعية والعادة، ولم يكد يختتم القرن الثاني حتى كانت الولاية البشرية قد رفعت من الوجهة القانونية عن الحرائر من النساء متى تجاوزن الخامسة والعشرين من العمر.
أما من جهة الحقوق الشخصية، فرغم أن التشريع أبقى على المرأة خاضعة أسيرة، إلا أن تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ورغبة في درء المفاسد، والحفاظ على السلم الاجتماعي، أصبحت المرأة بالتدرج حرة طليقة، وكانت تقوم بنصيبها من العمل، فعملن في الحوانيت أو المصانع وخاصة في الحرف المتصلة بالنسيج، وأصبحن طبيبات أو محاميات، وشاركن في العمل السياسي، وأصبح لبعضهن وضعاً سياسياً مميزاً، وبذلك حصلت المرأة الرومانية على بعض الامتيازات والحقوق المدنية والمواطنة ما لم يتمتع به غيرهن في الحضارات القديمة رغم صرامة وبشاعة الاستغلال الطبقي، وكانت القاعدة التي بنى الرومان قانونهم وفقاً لها في الامور الشخصية تقوم على توفير الحرية الشخصية ما أمكن للمواطنين الأحرار، على أن لا تشكل خطراً كبيراً في تركيبة المجتمع القائمة على الاستغلال الطبقي الصارم، ورغم ذلك ظل القانون الروماني يحرم على الرجال من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أن يتزوجوا من المحررات (التي كانت في الرق وتم فك رقها رسمياً) أو الممثلات، كما حرم على الممثل والمحرر أن يتزوج ابنة من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ، كما أن أبناء الجارية كانوا يعدون كلهم عبيداً ولو كان أبوهم من الأحرار، وكان الزنى من الجرائم الصغرى إذا ارتكبه الرجل، أما إذا ارتكبته المرأة فكان يعد من الجرائم الكبرى، وكان عقابها هو النفي، وكانت قوانين الجمهورية في عهدها الأول تبيح للدائن أن يسجن المدين الذي يتكرر عجزه عن الوفاء بدينه في سجن انفرادي، وأن يبيعه بيع الرقيق بل أن يقتله، ولكن في وقت الإصلاحات التي دعى إليها خبراء القانون الروماني رفعت هذه القوانين واستبدلت بتوفير ضمانات كافية لرد الدين.
أما في مجال تملك البشر فقد عد الأرقاء أدنى الطبقات، ولقد عد العبد من قبيل المتاع من وجهة نظر القانون، فلم يكن يحق له أن يمتلك، أو يرث، أو يورث، ولم يكن يستطيع أن يتزوج زواجاً شرعياً، وكان أبناؤه كلهم يعدون أبناء غير شرعيين، وكان للسيد في عهد الامبراطورية أن يضربه ويسجنه ويحكم عليه أن يقاتل الوحوش في “المجتلد”، ويعرضه للموت جوعاً، أو يقتله لسبب أو لغير سبب، ومن غير أن تكون عليه رقابة، وإذا أبق عبد ثم قبض عليه كان في مقدور سيده أن يكويه بالنار أو يصلبه، وتحسن وضع العبيد بعض الشيء في عهد الإمبراطور “كلوديوس” حيث حرم قتل العبد الذي لا يرتجى منه نفع، وأمر أن يصبح العبد المريض الطريد بعد شفائه حراً من تلقاء نفسه، وحرم قانون “بترونيا”، في عهد “نيرون” على الأسياد أن يحكموا على العبيد بأن يقاتلوا في “المجتلد ” إلا إذا وافق على ذلك موظف كبير، كما أجاز نيرون للعبد الذي أسيئت معاملته أن يتقدم بشكواه، وعين قاضياً لينظر في شكواهم، ولكن غالباً ما كانت الأحكام الصادرة في غير صالح العبيد في هذا القانون، فمقدار ما يفرضه من الضرائب والقيود على عتق العبيد كبير جداً، الى الحد الذي كان كثيرون من الملاك يتملصون من قانون ” فوفيا كانينا ” بأن يعتقوا عبيدهم من غير شهود رسميين أو احتفال قانوني، وإن كان هذا العتق لا يعطي المعتوق حقوق المواطنة بل كل ما يمنحه إياه هو أن يجعله لاتينياً في حين ان العبد الذي يعتق بشكل قانوني يعد مواطناً يستمتع بالحقوق المدنية الى حد ما، وكانت زروة البشاعة والقسوة في الحضارة الرومانية عندما أدخل القياصرة إلى روما عادة صراع الثيران والآدميين، وهي العادة التي كانت شائعة في ” كريت وتساليا ” اللتان كانتا من أقدم مدن الإغريق، وأصبحت منذ عهد بعيد من المناظر المألوفة في المدرجات طلباً للترفيه والتسلية، فقد كان المجرمون المحكوم عليهم بالإعدام يلقون إلى الحيوانات التي استوحشت لهذا الغرض، وكانوا يعانون في أثناء موتهم أشد أنواع الآلام، وكان المتقاتلون في هذه الحالة من أسرى الحروب، أو المجرمين المذنبين، أو العبيد العاصين، وكان من حق المنتصرين أن يقتلوا أندادهم، وقد يدخل مجالد واحد أو أكثر نزولا عند رغبة الجماهير، فإذا أريدت مجازر كبيرة يتم تنظيم معارك جماعية يقتتل فيها آلاف الرجال بوحشية، من ذلك المعارك التي أعدها أغسطس “أوكتافيوس” والتي بلغ تعداد المجالدين الذين أقحموا في النزال فيها حتى الموت عشرة آلاف مقاتل اقتتلوا فيها مجتمعين، ولقد كانت السمة البارزة في حياة روما هي تلك المعارك التي تقام لغرض التسلية، على أن القليل من الرومان كانوا يعترضون على تلك المجالدات، ومن أُولئك “شيشرون”، فكانت نفسه تتقزز من هذه المجازر وهو يسائل الناس “أية تسلية يمكن أن تتسلى بها الروح الرقيقة الإنسانية حين ترى إنساناً يمزقه وحش ضار أقوى منه جسماً؟”، ويعد التطور الذي طرأ على المباريات الدموية هو الأقسى في تعامل الرومان مع الطبقات الاجتماعية المتدنية وخصوصاً العبيد، فقد أضيف العبيد على قائمة المجالدين لإضفاء روح المقامرة وللمزيد من التسلية بين الأشراف أو ملاك العبيد.
وبناءاً على ما تقدم نرى أن واقع المجتمع والدولة في روما كان يتناقض تماماً مع الأفكار الحقيقية للحريات العامة والخاصة، وحقوق الإنسان، حتى في مفهومها البدائي، فما كان يدور من قتل لحقوق الإنسان في روما وإهدار لكرامته يمثل جانباً من مظاهر تلك الدولة، وعلامة بارزة تعكس جانباً مهماً من طبيعة المجتمع الروماني، ويمكن القول بأن الآراء التي نادى بها كل من “شيشرون” و “سنيكا” على وجه العموم قد ظلت الأساس الذي قاد إلى ظهور الأفكار الأولى لآباء الكنيسة عبر فكرة المساواة العامة والأفكار الإنسانية والثورة على الدولة، والقول بوجود قوة فعالة تحاول تصحيح مسيرة الحياة وتخليصها من الشر على وجه الأرض وهذا هو الاساس الموضوعي الذي مهد سلفاً لتقبل الديانة المسيحية التي تقوم على نبذ العنف والمساواة واستصلاح النفس الإنسانية، وهو موضوع مقالنا القادم.


التعليقات