عاش العرب قبل الإسلام في منطقة الجزيرة العربية على هيئة قبائل وعصبيات متناحرة تقاتل كل منهما الأخرى ، ولكل قبيلة رئيس يحكمها، فجاء الإسلام ووحد كل هذه الفرق والعصبيات تحت راية أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول، لا يفرقهم ولا يميزهم لون أو جنس أو نسب أو انتماء لقبيلة دون أخرى، وسعى النبي صلى الله عليه وسلم إلي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج لتحقيق الألفة بينهم قال تعالى:” وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ” ( آل عمرآن: 103)، ومن أكثر الأشياء التي حذرنا منها الله سبحانه وتعالى هو التنازع والتفرق وبين أن هذا سيكون سبب ضعفنا وذهاب قوتنا وبأسنا على أعدائنا في قوله تعالى: ” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ” ( الأنفال: 46). ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقوع الفرقة في هذه الأمة فقال: ” والذي نفسي بيده لتفترقن على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة واثنتان وسبعين في النار” قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: هم الجماعة ” ( إسناده صحيح). والجماعة: المقصود بها ما أجتمع عليه أكثر علماء الأمة، أما الفرقة تعرف بأنها: مجموعة من الناس تتحد على أفكار ومفاهيم معينة من خلال الفهم الخاطئ لآيات القرآن الكريم والاحاديث، والاختلاف مع مجموع المسلمين (ما اجتمع عليه علماء الأمة)، ظنا منهم أنهم على الحق، ومن يخالفهم على باطل، أي يفرحون بانتمائهم لمجموعة من الناس (حزب)، وينكر انتمائه لباقي المسلمين مصدقا لقوله تعالى:” وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ” ( الروم: 31-32). شيعا: أحزاب متفرقة. ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالانتماء إلي السواد الأعظم: اى ما اجتمع عليه علماء الأمة ” فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ” (رواه ابن ماجه)، وأمرنا الله بان نتوحد على كتاب الله ولا نتفرق ” اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ” ( آل عمرآن: 103) ولقد بين لنا الله ورسوله سمات هذه الفرق الضالة عن هدي النبي لنتجنب الوقوع في هذه الفتنة ومنها:
1- الانتماء إلي عصبية ( حزب أو فرقة): ” لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة وليس منا من قاتل عصبيَّة من مات على عصبيَّة ” (أخرجه أبو دواود ). ليس منا: أي هذه تعد كبيرة كان عقابها نفي النبي صلي الله عليه وسلم من يفعل ذلك انتمائه للمسلمين. لأن ما من أمة بعث الله فيها رسول بآيات بينات ثم تفرقت إلي أحزاب مختلفة إلا كان ذلك طمعاً في الزعامة والرياسة مصدقا لقوله تعالى: ” مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ” ( الشورى: 14) بَغْيًا بَيْنَهُمْ: طلبا للرياسة والزعامة. وهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ” لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ, فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ, وُكِلْتَ إِلَيْهَا, وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ, أُعِنْتَ عَلَيْهَا, وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ, فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا, فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ, وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ” ( متفق عليه) وكلت إليها: كانت مشقة وعناء على من يطلبها في حمل أعبائها.
2- اتخاذ علماء الدين أو الدعاة اربابا من دون الله: قال تعالى: ” وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ” (آل عمران:64). ” اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ” (التوبة:31). أربابا: أي يطاعوا كما يطاع الرب، وهذه الآيات قانون في كل زمان أي تقديس وطاعة أحبار اليهود أو رهبان النصارى أو علماء الدين والشيوخ كطاعة الله سمعاً وطاعة بدون تفكير أو وإعمال العقل في ما يقولونه، ودون مقارنة ما يقولونه بما جاء في القرآن والسنة ” لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ” وخاصة عندما يخرج منهم فتاوي تتناقد مع فطرتنا السليمة ولا تستوعبها عقولنا. وانتمائهم لهؤلاء الدعاة والشيوخ أكثر من انتمائهم لله ولرسوله، هذا من الشرك الاصغر الذي نهانا الله عنه.
3- الآخذ بالآيات المتشابهات ( غير واضحة المعنى) وترك الآيات المحكمات (واضحة المعنى): فإن الله سبحانه وتعالى قادرا على أن يجعل كل آيات القرآن محكمة (واضحة المعني)، ولكن جعل الله في ذلك اختبارا للعباد لكي يعلم من المؤمن الصادق الذي يتبع الحق على علم وبينة يعلم أن القرآن كله لا تناقض ولا أختلاف فيه، وإذا اراد أن يستنبط حكم من آيات القرآن لا ياخذ بآية ويبني عليها حكم بمعزل عن الفهم الكلي لآيات القرآن ، ومن يفعل ذلك يبتغي إثارة الفتنة والتفرقة بما يخدم أهوائه الشخصية ومصالحه الدنيوية قال تعالي: ” هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ” ( آل عمران:7).
4- التفريق بين القرآن والسنة: حذر الله ممن يفرق بين آياته وسنة رسوله ، وظهر في عصرنا الحالي فرقة أو جماعة تسمى القرآنيون أو أهل القرآن (اى تاخذ بالقرآن فقط)، وفرقة أخرى تأخذ بالسنة فقط، وهذه سمة مشتركة بين كل المذاهب والفرق الضالة عن هدى النبي قال تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ” (النساء: 152). أي أن الله سبحانه وتعالى يؤكد أن المؤمنين حقا هم الذين يأخذون بالفهم الكلي الإجمالي ( للقرآن والسنة) في فهم أي قضية من القضايا التي يتحدث عنها القرآن، والذي يفعل غير ذلك يؤدي إلي ظهور الاختلاف والفرق والفتن.
5- الغلو في الدين والتشدد فيه: فإن كل من تشدد في الدين على مر الزمان أهلاكهم الله وهذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم: ” هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون ” المتنطعون: المتشددون في الدين والقول والفعل. وفي صحيح البخاري ” أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة ” . و قال صلى الله عليه وسلم: ” يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من قبلكم الغلو في الدين ” (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).
6- نهى الله ورسوله عن ترويع الناس عامة والمسلمون خاصة: عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ قَالَ:” مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ” (متفق عليه). ” من حمل علينا السلاح فليس منا ” ( رواه البخاري ). ” لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ” (رواه أبو داوود). قال تعالى: ” وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ” (النساء:93).
”
7- موالاة أعداء الإسلام ضد المسلمون مقابل الحصول على المصالح الدنيوية: حذر الله سبحانه تعالى من التحالف مع الدول المعادية للإسلام ضد المسلمين في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ” (المائدة: 51). وهناك فرق بين إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا ضروري، وبين التحالف مع الدول المعادية للعرب و المسلمين ضد المسلمين. وهذا ما فعلته كل الاحزاب والفرق، والواقع الذي تعيشه (الأمة العربية) الآن خير دليل. والحكمة من تحريم موالاة أعداء الإسلام، أنهم دائما يتحالفون مع بعضهم ضدنا ” بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ” والتاريخ خير شاهد على ذلك ، ومن يأمن لهم يغدروا به.
8- يريدون الدنيا بأسم الدين: وهذا ما أخبارنا به النبي صلى الله عليه وسلم بظهور رجال يحتلون الدنيا بأسم الدين لخدمة مصالحهم الشخصية من صراع على السلطة والرغبة في العلو في الأرض ” يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا ” ( رواه الترمذي عن أبي هريرة). أبي يغترون: الغرور برحمة الله وحلمه – أم علي يجترئون: أي لا يخشون من الله . فاقسم الله وتوعد لهولاء الفرق التي تسعى لمصالحها الدنيوية متخذة الدين وجهة خارجية لجذب الناس إليهم وتصديقهم فما يفعلون، بإن يبعث عليهم فتنة: أى عقاب شديد من الله جزاء لمخالفتهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد صدق الله وعيده مع هؤلاء الخارجون عن هدي النبي ” فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ” ( النور:63).
لذلك برأ الله رسوله من كل من تفرق في دينه وانتمى لفرقة أو حزب ولم ينتمى لمجموع المسلمين بأنهم ليسوا على منهجك يا محمد في قوله تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ” ( الأنعام: 159). شيعا: أحزاب متفرقة. وأن أحد الصحابه سأل النبي ماذا يفعل إذا ادرك زمن الفتن ” قال له فما تأمرني إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ” (رواه البخاري- كتاب الفتن). ووصنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بكتاب الله لأنه المخرج من هذه الفتن ” لَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ” (رواه الترمذي). وصدق الله العظيم في قوله تعالى: ” وَ مَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” ( آل عمران: 101).
بقلم: هند درويش
ماجستير في التفكر في القرآن الكريم وعلاقته بالتفكير الإبداعي
التعليقات