ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين، على الجذور الفكرية للوهابية، ثم تطرقنا لنشأة الوهابية في مقالتين متصلتين، ثم نشأة وملامح وسقوط الدولة الوهابية السعودية الأولى في ثلاث مقالات متصلة، ومقالة عن الدولة السعودية الثانية، ومقالتين متصلتين عن التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة، ومقالتنا هذهعن “الدولة السعودية الثالثة 1-2”.. فرغم أن الدولتين السعوديتين الأولى والثانية نشأتا في ظل ضعف وتحلل الإمبراطورية العثمانية، وكانتا صدى لحركات التمرد واسعة النطاق داخل ولايات الإمبراطورية، إلا أنهما كانتا بعيدتين عن التأثير المباشر للتدخلات الأوروبية في شؤون الدولة العثمانية التي وصفت بالرجل المريض، حيث اعتبر الغرب أنفسهم الورثة التاريخيين لهذه الإمبراطورية التي شاخت وخرجت من التاريخ، بسبب عزلتها وتخلفها عن مواكبة التطورات الهائلة التي أحدثتها الرأسمالية الغربية في كافة المجالات. بينما نشأتالدولة السعودية الثالثة في ظروف توسعالنفوذ الغربي في منطقة الشرق الأدنىوالخليخ العربي،بموازاةانحسار نفوذ الدولة العثمانية، وفرض الحماية البريطانية على مشيخيات الخليخ التي كانت جزءً من الدلة السعودية الأولى البائدة. وقد أدت تلك التغيرات حول منطقة شبه الجزية العربية إلى تغير ظروف وملابسات المحاولة الثالثة لنشأة الدولة السعودية، وتغيير الخريطة السياسية للإقليم كله، وإن ظلت طبيعة الكيان الوهابي السعودي الجديد مماثلة لسابقاتها لجمود الحراك الاجتماعيالناتج عن استمرار نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمنطقة شبه الجزية العربية، وهي نفس ظروف المجتمعات البدائية قبل القرون الوسطى، أي المزج بين سمات وخصائص العصور البدائية والوسطى، في حين كانت أغلب دول العالم قد تخطت تلك المرحلة، ناهيك عن تجاوزها نهائيًا في المجتمعات الغربية الحديثة.
كما أوضحنا سابقًا، انبثقت الدولة السعودية الأولى من رحم الحركة الوهابية، والتصقت بها واعتنقت مذهبها الحنبلي التيميالتكفيري، وتبنت مبادئها المبنية على نظرية التوحيد الخائبة لابن تيمية، ورفعت شعارها ببناء الدولة الإسلامية (دولة الموحدين)في مواجهة المشركين، وقد بلغت تلك الدولة أوجها وطبقت مبادئها وأهدافها على يدي الأمير سعود الكبير، ولكنهاسقطت أمام القوة المصرية(بتكليف من الدولة العثمانية) التي دمرت عاصمتها الدرعية وأسرت أميرها عبد الله بن سعود وأعدمته. وكما كانت منطقة نجد لا تلق اهتمام يذكر من الدولة العثمانية صاحبة السيادة على تلك المناطق إبان الاحتلال العثماني، لعدم الجدوى الاقتصادية والجيوسياسية آنذاك، كذلك لم تنل منطقة شبه الجزيرة العربية الاهتمام الكافي من المصريين لنفس الأسباب. ونتيجة لتعدد مشاكل الإمبراطورية العثمانية خلال فترة انحدارها، وكذلك انشغال محمد علي بإنشاء دولته الحديثة في مصر، وخاصة أن القضاء على الدولة الإرهابية السعودية الأولى كان مطلبًاعثمانيًا أكثر منه مصريًا. فقد أدى ذلك إلى إضعاف الأمراء والحكام المحليين لقرى ومقاطعات شرق شبه الجزيرة العربية الموالين لمصر والدولة العثمانية، وتجددت الصراعات من جديد بين هؤلاء الحكام ونظرائهم من آل سعود والوهابيين، حيث بدأ تشكيل الدولة السعودية الثانية عام 1850م وسط صراعات دامية بين أمراء آل سعود للاستيلاء على السلطة بالقوة والقهر والغلبة كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل، ولم يتوقف الاقتتال فيما بينهم حتى سقطت الدولة السعودية الثانية تمامًا. فاجتاح العثمانيون منطقة الأحساء، واجتاح آل رشيد كل البلاد النجدية، فأنهى آل رشيد حكم آل سعود في كل نجد، لتنتهي الدولة السعودية الثانية في أوائل أغسطس 1891م. مما اضطر الأمراء الناجين من آل سعود بزعامة عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود (1850-1928)، آخر أمراء الدولة السعودية الثانية، للفرار عن نجد مع أسرته واستقر به المطاف ليعيش في الكويت في عهد أميرها الشيخ مبارك آل صباح.
استفاد آل سعود كثيرًا من إقامتهم في الكويت وقتذاك، حيث منها بدأت تحركاتهم السياسية وغير السياسية لاستعادة حكمهم الذي فقدوه. وكانت أواصر العلاقة قد توطدت بين آل سعود والشيخ مبارك آلصباح، خاصة علاقة هذا الشيخ بالفتى عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود. وقد ابتدأت علاقة عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا في الكويت عندما كان يعيش فيها لاجئًا مع ابيه، وذلك عندما تمرد حاكم الكويت (الشيخ مبارك آلصباح) على الدولة العثمانية وتحالف مع بريطانيا صاحبة النفوذ الجديد في بداية القرن العشرين، فأوعزت الدولة العثمانية لأحد ولاتها وهو أمير حائل عبد العزيز بن رشيد، بالاستيلاء على الكويت وتأديب أميرها المتمرد. وهنا قام مبارك ضمن خطته لمواجهة أمير حائل، بالاستعانة بابن سعود الذي كان له من العمر يوم ذاك حوالي عشرين عامًا، فقاد كتيبة كويتية لاحتلال الرياض في مارس 1901م، ولكنه مني بهزيمة منكرة اضطر إثرها للانسحاب، فيما أخذت قوات ابن الرشيد تلاحقه حتى أسوار الكويت، ولم ينج من تلك القوات إلا عندما أوقفتها المدافع البريطانية. وتعلم عبد العزيز من دفاع بوارج بريطانيا عن ابن الصباح وتثبيته على عرشه في الكويت وإبطالها لمفعول الفرمان العثماني، درسًا مهمًا أقنعه بأهمية الاعتماد على بريطانيا في أي مواجهة مع الدولة العثمانية وحلفائها من آل رشيد، وعاد من العام القادم مع فرقة صغيرة من أتباعه ونجح في اقتحام قصر الإمارة في الرياض في الخامس عشر من يناير عام 1902م وقتل الأمير عجلان بن محمد آل عجلان، عامل ابن رشيد. ومع أن الاستيلاء على الرياض بتلك الصورة كان يعتبر نوعًا من التمرد والخروج على السلطة الشرعية (العثمانية) التي كان يعترف بها السعوديون في ذلك الوقت، إلا أن ابن سعود أعلن منذ اليوم الأول لاحتلاله للرياض بأنه سيحكم باسم السلطان العثماني، وأعلم حاكم البصرة أنه يعتبر نفسه واليًا من ولاته. وفي الحقيقة لم تكن العملية بعيدة عن أعين بريطانيا ودعم حليفها أمير الكويت. إذ يقول مؤرخ الكويت المعاصر لتلك الفترة عبد العزيز آلرشيد “إن الشيخ مبارك آلصباح قدم لابن سعود دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا حيويًا، خاصة عندما حاول ابن رشيد مهاجمة الرياض واستعادة سلطته فيها في أوائل سنة 1902م حيث هب مبارك لنجدة ابن سعود وأمر بشحن جملة من السفن الكويتية أطعمة وذخيرة، وأصدر أمره إلى الجيش بالمسير إلى الرياض لينقل منها ما يحتاجه، وكان مبارك يرسم الخطط الحربية له وهو في مدينته، فانتصار ابن سعود إذًا على ابن رشيد هو انتصار لمبارك على خصمه، و تنفيذ لخططه التي رسمها”. ويعد نجاح هذه المحاولة البداية الحقيقية لتأسيس الدولة السعودية الثالثة. ثم شرع عبد العزيز آل سعود في ضم مناطق نجد تدريجيا، ففي الفترة من 1902-1903م ضم المناطق الواقعة جنوب الرياض، فبعد انتصاره على ابن رشيد في بلدة الدلم واصل غزو كل بلدان الجنوب حتى خضعت له. ثم أخذت الدولة السعودية الثالثة تتوسع تدريجيًا في المناطق المعروفة بوسط نجد، حتى أصبحت تتاخم حدود منطقة القصيم الواقعة تحت سيطرة بن رشيد. ثم اتجه إلى ضم منطقة القصيم إلى دولته كي يتمكن بذلك من توسيع حدود دولته من جهة وتوفير المقومات الاقتصادية الضرورية للدولة الناشئة. حيث أن القصيم منطقة زراعية جيدة وفيها مراكز تجارية مشهورة، وهي منطقة مهمة لأن قوافل التجارة والحجيج تمر بها. وبحلول عام 1904م تم استيلاء آل سعود على منطقة القصيم، وفي عام 1908 استولوا على بريدة، وفي عام 1910 استولوا على الخرج. واستمر آل سعود في الغزووالتوسع حتى تمكنوا من ضم الأحساء في عام 1913م ليكتمل الاستيلاء على المنطقة الشرقية باستثناء مشيخات الخليج التي تقع تحت الحماية البريطانية المباشرة، وخرجت بذلك من حسابات آل سعود.
شهدت الدولة السعودية الثالثة الإحياء الثاني للوهابية ممثلا في تنظيم (الإخوان)، باعتباره الفصيل الراديكالي للحركة الوهابية. فمع عودة الحكم إلى آل سعود في الرياض والمنطقة الشرقية، انطلقت الوهابية في حركة إحياء جديدة، حيث قام أحد المشايخ الوهابيين وهو (عبد الكريم المغربي) ببناء خلية في واحة (الأرطاوية) وأقنع حوالي خمسين شخصا من البدو بالاستيطان في الواحة، أو القرى المحيطة بها، في محاولة منه لاستعادة تجربة الحركة الوهابية الأولى التي قامت على يدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل قرن ونصف قرن من ذلك الزمان.وفي الأول من مارس 1929م كتبت جريدة (أم القرى) لسان حال السعوديين التي تأسست بعد احتلال الحجاز أن يناير 1913م هو تاريخ نشوء أول هجرة. ثم انتشرت الفكرة في طول نجد وعرضها ثم تبعت الأرطاوية هُجَر لعدة قبائل تُؤسس كل سنة، فهجرة “الغطغط” بالقرب من الرياض لقبيلة عتيبة بزعامة سلطان بن بجاد بن حميد، وهجرة “دخنة” لقبيلة حرب، و”الصرار” لقبيلة العجمان بقيادة ضيدان بن حثلين شيخ العجمان وأحد قادة الإخوان. وازداد عدد الهجر حتى بلغ أكثر من سبعين هجرة، عُرف سكانها باسم (الإخوان). وأخذ الدعاة الوهابيون الجدد (المطاوعة) يطوفون في قبائل نجد، يدعونهم إلى الهجرة والاستقرار في القرى والواحات، التي أطلقوا عليها اسم “الهُجَر” أو “اليثربيات” نسبة إلى (يثرب) مهجر الرسول الكريم محمد (ص): (المدينة المنورة)، واعتبروا (الهُجَر) دارًا للإيمان والهجرة من دار الشرك والجاهلية، كما كانت المدينة المنورة في مطلع الإسلام، حيث رأوا أن من آية الإخلاص لله ودينه وآية الإيمان الصحيح: التخلص من كل ما يشتم منه رائحة الجاهلية، فأخذوا يبيعون إبلهم وأغنامهم وينقطعون في (الهُجَر) للعبادة وتعلم القراءة وحفظ القرآن وسماع السيرة النبوية وغزوات الرسول وتاريخ انتشار الإسلام في جزيرة العرب. وأطلقوا على أنفسهم اسم “الإخوان” تيمنًا بآية “فأصبحتم بنعمته إخوانًا”. وقد تفاعل البدو الذين اعتادوا على الغزو والنهب والقتل في الصحراء، مع العقيدة الوهابية التي كانت تبرر لهم ذلك بما تصوره لهم من أنهم وحدهم “المسلمون” وأن غيرهم “كفار ومشركون” لا حرمة لدمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأنهم يمارسون في غزوهم، الجهاد في سبيل الله. ثم توسعت الحركة وأصبحت لها اليد الطولى في شؤون نجد، واسترعت انتباه الأمير ابن سعود في معركة احتلال الأحساء عام 1913م بما أبدت فيها من بسالة عسكرية كبيرة وتفانيا شديدا في القتال. وبادر ابن سعود في عام 1916م إلى التصدي لقيادتهم كزعيم روحي لهم، واستغلالهم في مشاريعه السياسية والعسكرية القادمة، وكان أحوج ما يكون إلى جنود مطيعين كالإخوان، فقرر أن يتولى قيادتهم. وأصدر أوامره بانخراط جميع القبائل العربية في صفوف (الإخوان)، شاءوا أم أبوا، فتألفت حوالي 220 مستوطنة (هجرة). وأوكل ابن سعود إلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف إدارة الهجر وتغذية البدو الملتحقين بها بالأفكار الوهابية والتركيز على طاعة الله وطاعة الحاكم ومحاربة “الكفار”، والإيحاء إليهم بأنهم فرسان التوحيد في مواجهة “المشركين”. وكان من المنتظر الثواب عل جهودهم الدينية والدنيوية بالمشاركة في الغنائم التي تُجمع بعد المعارك.وقبل نهاية السنة وجد ابن سعود نفسه قائدا لجيش كبير من المتطوعين العقائديين يستطيع الاعتماد عليهم حتى الموت، وأن يضمن بهم التفوق على أعدائه.واتسمت قرى الهجر بالفوارق الطائفية بين القبائل الرفيعة التي تقدم المزارعين المقاتلين وبين القبائل الوضيعة التي كان يتعين عليها ممارسة الصنائع والبناء وتأمين مستلزمات القرى الجديدة. وغالبا ما كان الصناع والباعة يعتبرون من الاشخاض الذين لا تشملهم الأعمال الحربية، وكان يتعين عليهم أن يصنعوا حدوات الجياد والسلاح والأدوات الزراعية ويصلحونها. وعندما تبدأ الحرب يبقون في القرى. وكان سكان الهجر المُلزمون بالخدمة العسكرية يُقسمون إلى ثلاث فئات، تضم الأولى الاشخاص الذين هم في حالة تأهب واستعداد دائم للقتال والذين يلبون نداء الجهاد حالًا، وتضم الفئة الثانية الاحتياط، أما الفئة الثالثة فتتكون من الذين يظلون في القرى عندما تنشب الحرب. ولكن بقرار من العلماء أن يجندوا في جيش الامير في الحالات الإستثنائية. وكان سكان الهجر يؤدون الخدمة العسكرية مع إبلهم وسلاحهم واغذيتهم. وكانت بعض الهجر فقط وهي الواقعة في اواسط نجد، تستلم معونة من بيت المال للأغراض الحربية عندما تقدم عساكرها. وكان البدون الذين استطونوا الهجر يعتقدون بأنهم انتقلوا من الجاهلية واعتنقوا الإسلام الحقيقي. وكانوا ينهمكون في نشر معتقداتهم بحماس كبير، حتى أنهم كانوا يضربون البدو والحضر الذين لا ينضمون إليهم ويعتبرونهم من الكفرة. وقد جعل عبد العزيز من (الإخوان) نواة جيشه الدائم الذي يخصه بالأسلحة والذخائر. وقال عبد العزيز لفيلبي (أحد المستعربين النشطين في شبه الجزيرة العربية) مفتخرا بهم “إنه يكفي أن أصدر النداء ليهب للقتال تحت رايتي ألوف من بيشة إلى نجران ومن رانية إلى تثليث وغيرها، ليس فيهم من لا يحب الموت في سبيل العقيدة، وكلهم يؤمنون بأن الفرار من الزحف يدخلهم النار”. وأحدث تلاحم ابن سعود مع حركة الإخوان، تحولًا كبيرًا في طبيعة الحروب التي كان يشنها من أجل توسيع رقعة إمارته، حيث اتخذت صفة الجهاد الديني، بعد أن كانت مجرد نزاع على السلطة. وبذلك رفعت الدولة السعودية الثالثة لواء الوهابية واستعانت بها لترسيخ أقدامها. وبسبب طبيعة العلاقة الاستبدادية بين النظام السعودي والحركة الوهابية، وبالطبع بينهما وبين عامة أبناء الشعب. أصرت الدولة السعودية على ترويض وتطويع الحركة الوهابية (حركة الإخوان) بما يخدم مصالحها ويتوافق مع متغيرات العصر التي اختلفت عن سابقاتها من الدولتين السعوديتين الأولى والثانية.وخاصة أن الدولة السعودية الثالثة نشأت خارج رحم الحركة الوهابية واعتمادًا على قوة أجنبية هي بريطانيا.
ظلت بريطانيا تعمل جاهدة على فصل إقليم الأحساء عن الدولة العثمانية، وإلحاقه بمشيخات الخليج الخاضعة للحماية البريطانية، وقد بذلت عدة محاولات مع أهالي الأحساء لدفعهم للتمرد والاستقلال وطلب الحماية البريطانية. ولكنها باءت بالفشل مما دفعها لإعطاء الضوء الأخضر لابن سعود لاحتلال الأحساء. وقد قام ابن سعود بهذه المهمة في اكتوبر سنة 1913م في الوقت الذي كانت تركيا تواجه زحف البلغار إلى الأستانة والصرب إلى سالونيك، واستيلاء الطليان على ليبيا. ورغم أن ابن سعود تظاهر بعد احتلال الأحساء بالبقاء على ولائه للدولة العثمانية، إلا أنه سرعان ما كشف عن انحيازه ضدها إلى جانب بريطانيا عند اشتعال الحرب العالمية الأولى، حيث أخذ يشارك في اجتماعات البصرة والكويت والمحمرة التي كان يعقدها مبارك وخزعل وطالب النقيب، تحت إشراف عملاء المخابرات البريطانية، وحاول أن يجر عجمي السعدون زعيم عشائر المنتفك في جنوب العراق إلى جانب بريطانيا والتعاون معها ضد الدولة العثمانية. وقد ذكر مستشار عبد العزيز، حافظ وهبة في كتابه (خمسون عاما في جزيرة العرب)،أن عبد العزيز عندما زار الكويت عام 1916م اجتمع بكبار أهلها وكان حديثه معهم كله تشديد النكير على الأتراك والحط من شأنهم والتنويه بأنه لو كان في بدنه قطرة دم تميل إلى الأتراك لبذل كل وسيلة لإخراجها من جسمه. وإضافة إلى ذلك قام عبد العزيز بن سعود بتوقيع معاهدة حماية مع بريطانيا، هي (معاهدة دارين) التي وقعها في 26 ديسمبر 1915م والتي اعترف بموجبها باتباع نصائح بريطانيا وبحقها في الإشراف على علاقاته الخارجية وعدم إقامة علاقات مع أي دولة إلا بعد الحصول على موافقة الحكومة البريطانية، والاعتراف بالهيمنة الاستعمارية البريطانية على الإمارات المحتلة في الخليج، في مقابل الاعتراف به من قبل بريطانيا وبضمان الحكم له ولذريته من بعده. وقد جاء في البند الأول من المعاهدة “إن الحكومة البريطانية تعترف وتقبل بأن نجدًا والأحساء والقطيف وجبيل وملحقاتها التي تعين هنا والمرافئ التابعة لها على سواحل خليج العجم، كل هذه المقاطعات هي تابعة للأمير ابن سعود وآبائه من قبل، وهي تعترف بابن سعود حاكمًا مستقلًا على هذه الأراضي، ورئيسًا مطلقًا على جميع القبائل الموجودة فيها، وتعترف لأولاده وأعقابه الوارثين من بعده على أن يكون خليفته منتخبًا من الأمير الحاكم، وأن لا يكون مخاصمًا لإنجلترا بوجه من الوجوه”. وجاء في البند الثالث منها”يتعهد ابن سعود أن يمتنع عن كل مخابرة أو إتفاق أو معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية، وعلاوة على ذلك فإنه يتعهد بإعلام الحكومة البريطانية عن كل تعرض أو تجاوز يقع من قبل حكومة أخرى على أراضيه”. وجاء في البند الرابع”يتعهد ابن سعود بصورة قطعية أن لا يتخلى ولا يبيع ولا يرهن، ولا بصورة من الصور يقبل بترك قطعة أو التخلي عن الأراضي التي ذُكرت آنفًا، ولا يمنح امتيازًا في تلك الأراضي لدولة أجنبية أو لتبعة دولة أجنبية، دون رضا الحكومة البريطانية، وأنيتبع نصائحها التي لا تضر بمصالحه”. وجاء في البند السادس”يتعهد ابن سعود – كما تعهد والده من قبل – بأن يمتنع عن كل تجاوز أو تدخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها وكل المشايخ الموجودة تحت حمايةإنجلترا والذين لهم معاهدات معها”. وتنفيذًا لهذه المعاهدة زودت بريطانيا ابن سعود بالمشورة العسكرية خلال حملة قام بها ضد أمير حائل ابن آلرشيد، وعينت النقيب شكسبير كمستشار عسكري له، وقد قُتل هذا في المعركة وهو يساعد على حشو مدفع أثناء المعركة. ورغم أن انحياز ابن سعود إلى جانب بريطانيا في الحرب ضد الدولة العثمانية، وتوقيعه لمعاهدة الحماية المشينة مع بريطانيا، كان يشكل في منطق الوهابية وحسب شروط التوحيد التي قررها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، من أكبر نواقض الإيمان، وهو الولاء للكفار ضد المسلمين (العثمانيين). خاصة في ذلك الوقت العصيب الذي كان فيه الإنجليز يخططون لضرب وحدة وتمزيق أوصال دولتهم العظمى (الخلافة العثمانية) وترسيخ جذور الاستعمار في المنطقة وإقامة الأنظمة التابعة لهم. إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقة ابن سعود بالحركة الوهابية التي نشطت في ظل حكمه وانخرطت في جيشه وكانت تصف عامة المسلمين بالشرك، ولا تفرق بين المستعمِر والمستعمَر.
كان عبد العزيز بن سعود يدرك أنه يسير في وادٍ، ويسير (الإخوان) في وادٍ آخر، فهو يعمل على خارطة محددة وأهداف معينة ويرتبط باتفاقيات دقيقة مع بريطانيا، بينما يعيش الإخوان على الآمال والأحلام والشعارات والنظريات المتطرفة التي تسببت في انهيار الدولة السعودية الأولى. ومن هنا أدرك عبد العزيز خطورة الإخوان، ولم يكن هو يريد بالتأكيد إعادة العالم الاسلامي “المشرك” إلى عالم التوحيد، ولكنه كان يريد فقط أن يستغل الإخوان والحركة الوهابية لتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية ثم يعيدها إلى الحظيرة. وقد قال للمقيم البريطاني في الكويت (هارولد ديكسون) الذي أبدى قلقه من خطر (الإخوان) في المستقبل “يا ديكسون لا تخف، الإخوان هم أنا ولا أحد غيري”.وعندما استولى عبد العزيز بن سعود على الرياض، لم يكن هناك أي حديث عن تكفير الدولة العثمانية التي أصبح ابن سعود واليًا لها، ولا عن تكفير الحجاز وشرفائها الذين أعلن لهم عن وده وتقديره، ولا عن تكفير الكويت التي مضى فيها لاجئًا عدة سنوات وذلك كما أوضحنا سابقًا. ولكن بعد أن قرر ابن سعود تبني حركة (الإخوان) عام 1916م وإعداد جيش (الإخوان) البدوي على أساسها، بدأت تتعالى نغمة التكفير من جديد، والنظر إلى سائر المسلمين على أنهم “كفار ومشركون”. إذ قال أحد المشايخ الوهابيين المسؤولين عن تعبئة “الإخوان”، وهو الشيخ سليمان بن سحمان عضو هيئة كبار العلماء “إن مَن في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم، بل الظاهر: أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام، فلا نحكم على جميعهم بالكفر لاحتمال أن يكون فيهم مسلم. وأما مَن كان في ولاية إمام المسلمين فالغالب على أكثرهم الإسلام لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة… وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين فلا ندري بجميع أحوالهم وما هم عليه، لكن الغالب على أكثرهم ما ذكرناه أولًا، من عدم الإسلام. فمن كان ظاهره الإسلام منهم فيُعامل بما يُعامل به المسلم في جميع الأحكام، وأما مَن ظاهره لا إسلام ولا كفر، بل هو جاهل، فنقول: هذا الرجل الجاهل إن كان معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام فهو مسلم .. وإن لم يوجد معه الأصل الذي يدخل الإنسان في الإسلام فهو كافر، فمن كان ظاهره الكفر فهو كافر”. أما الشيعة فقد كان الوهابيون ينعتونهم بالرافضة، ويعتبرونهم من أهل دين آخر غير الاسلام، وقد أصدر الشيخ محمد بن عبد اللطيف ومعه أربعة عشر عالمًا وهابيًا آخر، في نهاية اجتماع عقد في السابع عشر من شهر يناير 1927م بيانا جاء فيه “…أما الرافضة فقد أفتينا للإمام ابن سعود أن يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل، وعلى الإمام أن يلزم نائبه في الأحساء أن يحضرهم عند الشيخ (ابن بشر) ويبايعوه على دين الله ورسوله… ويلزمهم بتعليم (ثلاثة الأصول) – وهو كتاب للشيخ عبد الوهاب – ومَن أبى قبول ذلك يُنفى من بلاد المسلمين…وأما رافضة العراق الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الإمام بكفهم عن الدخول في مراعي المسلمين وأرضهم”. وتحت شعارات التكفير هذه أمر ابن سعود قائده فيصل الدويش (زعيم الإخوان) بمهاجمة الجهراء في الكويت بنحو أربعة آلاف رجل سنة 1920م، من أجل (دعوة أهل الكويت إلى الإسلام). مما أحدث صدمة في نفوس الكويتيين وحتى الحنابلة والسلفيين منهم. ولما كانت عجلة التكفير عنيفة وواسعة فإنها لم توفر حتى بعض القواعد الوهابية، حيث لم يكتف (الإخوان) بتكفير الشيعة وعامة المسلمين، وإنما أخذوا يكفرون بعض الوهابيين من البدو والحضر، وخاصة الذين لم يلتحقوا بهم، أو لم يهاجروا معهم، أو لم يلتزموا بدقة بمثل ما كانوا يلتزمون، كلبس العمامة التي اشتهروا بها. فيقول الشيخ سليمان بن سحمان “يجري على ألسنة كثير منهم من الأمور التي أحدثها وابتدعها مَن تجاوز الحد، وغلا في الدين واتبع غير سبيل المؤمنين. فمن ذلك قولهم: إنه لا إسلام لمن لم يهاجر من الأعراب، وإن كان قد دخل في (الدين) وأحبه ووالى أهله، وترك ما كان عليه أولًا، من أمور الجاهلية، إلا أن يهاجر، ومن لم يهاجر فليس بمسلم عندهم. ومن ذلك أيضا: أنه إذا مرت قافلتهم على بعض الأعراب الذين ظاهرهم الإسلام وفيهم من تميز بمعرفة الدين والدخول فيه وترك ما كانوا عليه من أمور الجاهلية لم يسلموا عليهم ابتداء ولا يردون السلام عليهم ولا يأكلون ذبائحهم لأنهم لم يهاجروا معهم”. وكان (الإخوان) قد استعادوا أدبيات الحركة الوهابية الأولى، والتي يكفر فيها مؤسس الحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أهل البادية بالعموم، واقتدوا به في الحكم على أهل البادية المعاصرين لهم عموما بالكفر. ولذلك توقف الشيخ ابن سحمان عند هذه النقطة فقال”هنا مسألة أخذ بها هؤلاء المتدينون من البدو (الإخوان) وهي أن من يقرأ عليهم بعض عبارات الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البدو، مثل الموضع السادس من السيرة (انه ليس معهم من الإسلام شيء)، وما ذكره عن الأعرابي الذي يشهد أنه هو وسائر الناس البدو كفار، وأن المطوع الذي ما يكفر البدو كافر، وأمثال ذلك، فإذا قرأه عليهم قالوا: هذا قول الشيخ في البدو”إنهم كفروا البادية بالعموم، وإنهم لم يسلموا ولم يدخلوا في هذا الدين”.
بدأت قبضة بريطانيا على وسط جزيرة العرب تزداد بازدياد نفوذ ابن سعود وكما يقول جاك بيربي “لقد بدت شبه الجزيرة العربية، منذ سنة 1919م، أنها من بين كل أراضي الشرق الأوسط منطقة محظورة على غير البريطانيين، فسواحلها البحرية الطويلة يسهل على الأسطول البريطاني أن يسيطر عليها، واثنان من سادتها الرئيسيين، الشريف حسين في الغرب، وابن سعود في الوسط والشرق، هما بحماية بريطانيا، ويتلقيان دعما ماليًا كبيرًا منتظمًا من الحكومة البريطانية، لقد بقيت الساحة خالية لبريطانيا”. لقد كانت السياسة البريطانية – كما يقول جون س – تقوم في شبه الجزيرة العربية على عدة اعتبارات تغيرت مع تغير الأوضاع الدولية هي كالآتي: أولا: قبل الحرب العالمية كان مفروضًا على السياسة البريطانية أن تعترف بسيطرة الدولة العثمانية على الجزيرة العربية، وألا تفعل ما يخالف هذه السياسة. ثانيا: أثناء الحرب العالمية الأولى كان هناك تخطيط بريطاني لقيام ثورة عربية في الجزيرة العربية ضد الدولة العثمانية في الحجاز يقوم بها الشريف حسين، وحرب ضد حليف الدولة العثمانية ابن رشيد في حائل يقوم بها ابن سعود. ثالثا: بعد انتهاء الحرب العالمية وسقوط الخلافة العثمانية تغير الموقف من ابن رشيد، إذ أصبح وجوده يعيد توازن القوى التي تحافظ بريطانيا على استمراره في المنطقة حتى لا تستفرد قوة واحدة عليها مما قد يهدد مصالح بريطانيا.وقد زاد من تعقيد الوضع أن الضباط والسياسيين البريطانيين في الجزيرة العربية انقسموا في مواقفهم إلى قسمين بحسب الجهات التي يتبعونها، فبينما كانت حكومة الهند البريطانية تدعم ابن سعود وتشرف على الجهة الشرقية من الجزيرة العربية، حيث كان فيلبي وولسن يؤيدان ابن سعود، كان المندوب السامي البريطاني في مصر ريجينالد وينغيت، ولورنس العرب في مكتب بغداد التابع للخارجية البريطانية في لندن، التي تشرف على شئون الحجاز، يقفان مع الشريف حسين. وقد زادت حدة الصراع بين الشريف وابن سعود خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (حتى اضطر مجلس الوزراء البريطاني للاعتراف بأن سياسته في شبه جزيرة العرب قد اختلت، فالخصومة بين حليفي بريطانيا، الشريف حسين الذي يتلقى اثنتي عشر ألف جنيهًا شهريًا من الدعم البريطاني، وابن سعود الذي يتلقى بدوره خمسة آلاف جنيها، كانت على أشدها). وعلى حد قول جون س لقد “كانت الحكومة البريطانية تستغل كلًا من الملك حسين وابن سعود لتحقيق أهدافها الحربية في شبه الجزيرة العربية، وخاصة احتواء القوة التركية في المنطقة، وإشغال القوات التركية الموجودة على الجبهة في الجزيرة العربية حتى لا تتفرغ للعمل على الجبهتين الأوروبية وجبهة الهلال الخصيب اللتين لهما طابع استراتيجي أكثر من الجزيرة العربية، وما إن تحقق هذا الهدف وبعد هزيمة الأتراك مباشرة، قررت الحكومة البريطانية السماح بانغماس الملك حسين وابن سعود في التطورات الداخلية، وذلك طبقا للتعليمات التي أرسلت للسير ريجينالد وينجات بعد استسلام المدينة – لقوات الشريف حسين التي كانت تحت إشراف الضباط البريطانيين ودعمهم العسكري حيث خرج الجيش العثماني الذي كان يدافع عن المدينة النبوية – وبناء على تغير الظروف واستسلام حامية المدينة فلن تجني الحكومة البريطانية شيًئا من التدخل في النزاع الدائر بين ابن سعود والملك حسين (كما ورد في التعليمات) وقد أُلغيت التعليمات الخاصة بتوجيه إنذار إلى ابن سعود. لقد احتل البريطانيون المدينة المنورة ونجحوا في إخراج الحامية العثمانية منها بواسطة قوات الشريف حسين، كما احتلت بريطانيا القدس بدعم قوات الشريف فيصل بن الحسين!.وقد كتب ابن سعود بتاريخ 2/8/ 1920م رسالة إلى بريطانيا التي كانت تمده بترسانة من الأسلحة، قال فيها “ساندوني وأنا أضمن ألا أسمح برواج المؤامرات المضادة لبريطانيا بين العرب، إنكم تسبغون على أصدقائكم الخونة الألقاب (يعني الملك حسين) وتمنحونهم الأراضي الخصبة(يعني الشام والعراق) وأنا صديقكم المخلص أظل أفقر مما كنت عليه من قبل! أرجوكم أن تطلبوا إلى حكومة صاحبة الجلالة زيادة إعانتي وأن تزيد من مساعداتها المالية لي، أنا لا أستطيع الاستمرار، ردوا علي، علموني كيف أقاوم وأتحمل”. لقد كانت المشكلة الرئيسية التي واجهها ابن سعود هي في إصرار الأخوان بقيادة فيصل الدويش على البدء بقتال الشريف حسين لكفره في نظرهم بتحالفه مع بريطانيا والنصارى، بينما كان ابن سعود بتوجيه بريطاني يحاول صرف أنظارهم عن الشريف حسين رجل بريطانيا في غرب الجزيرة العربية، وتوجيههم نحو حائل وابن رشيد الذي كان حليفًا للدولة العثمانية وعدوًا لبريطانيا، وقد عقد ابن سعود مؤتمرًا عامًا في مدينة شقراء، حضره الزعماء من البدو والحضر، وقد أعلن ابن سعود عن موقفه بضرورة قتال ابن رشيد بدعوى أنه أضعف عسكريًا من الشريف حسين وكما يقول جون س من خلال الوثائق “طالبت المعارضة بزعامة فيصل الدويش شيخ قبائل مطير والناطق باسم الإخوان أن يقوم الإخوان بالهجوم على الإنجليز، والملك حسين، الذي سلحه الإنجليز والذي يهدد إخواننا في العقيدة في الخرمة”. ولم يستطع ابن سعود الاعتراض على هذه الحجة، بإعلان أن المشكلة ليست مع الإنجليز ولا بتحالف حسين مع الإنجليز، إذ كان هو نفسه حليفًا لهم، وتحت حمايتهم، ويستقبل دعمهم، بل برر تحفظه على مثل هذا الرأي الذي يطالبه به الإخوان والدويش بحجة أن الشريف أقوى عسكريًا، وأن حائل أشد خطرًا، وقد نجح في آخر المؤتمر في إقناع المعارضةوأن يثبت ولاءه للبريطانيين مع تقوية أمن ممتلكاته في آن واحد. وفي الوقت الذي يدور النزاع بين ابن سعود والشريف في الحجاز تحت إشراف بريطاني في جهة الغرب وقع صراع آخر شرقًا وكما يقول جون س “نشب الخلاف – بين الإخوان وسالم الصباح – عندما أرسل سالم قوة من رجاله لإجبار الإخوان من قبيلة مطير في موقع اسمه قرية على تركها من منطلق أنها أراضي كويتية، وأعقب ذلك نشوب العديد من المعارك التي كان أشهرها معركة الجهراء في اكتوبر 1920م، بقيادة فيصل الدويش الذي خرج منها منتصرًا، وقد أدت حشود الكويتيين وربما الهجوم الضاري الذي قام به الإخوان على مدينة الكويت نفسها إلى إرسال بعض سفن المدفعية البريطانية، إلى المياه الكويتية لوضع الطيران في موضع الاستعداد، في إشارة قوية من بريطانيا إلى التزامها بالدفاع عن محميتها والحفاظ عليها، وقد أدت عمليات الإخوان العسكرية هذه إلى إخلاء تلك المنطقة وإلى الأبد من الرعاة الكويتيين وقطعانهم، كما نتج عنها أن أصبحت تلك الأراضي جزء لا يتجزأ من نجد، ومعترفًا به دوليًا، بناء على اتفاقية الحدود النجدية الكويتية التي أبرمت في العقير في 7/12/ 1920م.
منذ بداية الحرب العالمية الأولى ووقوف حائل ضد الهجمة البريطانية على الدولة العثمانية، قررت بريطانيا إسقاطها واحتلالها على يد عبد العزيز بن سعود، وقد خطط وليم شكسبير لهذا الهدف، وقُتل في معركة جراب بين ابن سعود وابن رشيد سنة 1915م، ثم واصل الكولونيل هاملتون مهمة شكسبير وزار الرياض سنة 1917م لتنفيذ هذا المخطط، ثم حل مكانه فيلبي الذي وصل قادما من بغداد إلى الرياض في أواخر سنة 1917م لتحقيق هدفين الأول إسقاط حائل وضمها للرياض، والثاني توثيق التحالف بين ابن سعود والشريف حسين في مكة لمواجهة الدولة العثمانية التي ما تزال حاميتها العسكرية تسيطر على المدينة المنورة، وقد قدر فيلبي احتياجات ابن سعود لينفذ المهمة في حرب ابن رشيد بخمسة عشر ألف رجل مسلح، وعشرة آلاف رجل احتياطي، وخمسين ألف جنيه نفقات شهرية، وعشر آلاف بندقية، وأربعة مدافع ميدان، وعشرين ألف جنيه للمواد الغذائية، وكتب فيلبي هذا التقرير لحكومته وأكد على ضرورة زيادة الدعم لضمان نجاح ابن سعود في مهمته. وقد تحفظ المندوب السامي البريطاني في القاهرة ريجينالد وينغيت على زيادة الدعم خشية أن يستخدم الأخوان هذا الدعم في مهاجمة الشريف في الحجاز الذي كان يتبع في شئونه المندوب البريطاني في القاهرة، بينما أكد كوكس المقيم البريطاني في بغداد الذي يتبع حكومة الهند البريطانية ضرورة زيادة الدعم خاصة وأن ابن سعود قد أصبح تحت الحماية البريطانية بمعاهدة رسمية سنة 1915م في دارين، وأن الهدف الذي تسعى إليه بريطانيا”ينصب على رؤية نهاية سريعة لابن رشيد، والإبقاء على ابن سعود والشريف كقوتين سياسيتين في وسط وغربي الجزيرة العربية، لما يشكلانه من ثقل في السياسة البريطانية في تلك المنطقة”. وبعد هزيمة الدولة العثمانية، وانتهاء الحرب العالمية سنة 1918م، خففت حكومة الهند من اندفاعها فكتب كوكس إلى مرؤوسيه في لندن “إننا لا نريد أن ندفع ابن سعود الذي لا يعتبر عبقريًا عسكريًا في عمليات خطيرة مثل محاصرة حائل”. إلا إن فيلبي ظل متمسكا بضرورة دعم احتلال ابن سعود لحائل، إذ “سيساهم ذلك – كما جاء في تقرير فيلبي – في تعزيز سلطة ابن سعود في قلب الجزيرة العربية، ومن ثم يخلق توازنًا بين حليفي بريطانيا الحسين وابن سعود”. وقد أكد دكسون الوكيل السياسي البريطاني في الكويت في تقرير له عن رغبته في احتلال ابن سعود لحائل بالوسائل الدبلوماسية حيث كتب في تقريره “إن حكومته تحبذ رؤية ابن سعود سيدًا على قلب الجزيرة العربية، وأن قوة ابن سعود ستزيد من هيمنة بريطانيا على الساحل الشرقي للجزيرة العربية، مما يجعل المشيخات هناك في ذعر دائم من ابن سعود، وسترنو دائما نحو بريطانيا لحمايتها”. وعليه، توجه فيصل الدويش ومعه ألفي مقاتل من قبيلة مطير من الأخوان نحو حائل، وجرت بينه وبين قوات محمد بن طلال ابن رشيد معركة عنيفة في الجثامية على بعد خمسة أميال من حائل كان النصر فيها حليف الأخوان، وتراجع بعدها ابن رشيد إلى عاصمته، وتمت محاصرته، وطلب الصلح من ابن سعود الذي اشترط عليه الدخول في حلف مع بريطانيا. لقد أصبحت حائل بعد سقوط الخلافة العثمانية محصورة بين فكي الكماشة ففرنسا في الشام وبريطانيا في العراق والرياض والحجاز وكما يقول المستشرق النمساوي المسلم محمد أسد الذي كان بمعية ابن سعود وعاصر تلك الأحداث “وإذ فقد ابن رشيد مؤازرة الأتراك وأصبح محصورًا في الشمال بالأراضي التي كانت تديرها بريطانيا وفرنسا، فإنه لم يعد يستطيع أن يبدي أي مقاومة فعالة ضد ابن سعود، واستطاعت قوى الملك بقيادة فيصل الدويش الذي كان في ذلك الحين أعظم قواد ابن سعود أن تستولي على حائل في العشرين من مارس 1921م”.
التعليقات