وهأنذا أعود مجددًا من حيث قد انتهيت آنفا، إذ الحديث المُشرق عن جُل مواثيق سورة النساء المُغدق، والتي يعد الميثاق الواحد منها، حُجة على خلق الله أجمعين، ففي ثنايا المقال السابق، سطرت الميثاق السامق من بعد الميثاق الرائق، كتبت عن العدل المطلق، الذي تخللته آية من آياتها، بتبرئة يهودي من تهمة السرقة، في ميثاق سماوي عظيم منزه عن الغفلة والنقيصة، وكذلك إقرار الأمانات إلى أهلها وإن لم يكونوا مسلمين ، فأعطى هذا الميثاق المتلأليء بالكمال، حق مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة، وكان يومئذ مشركاً ، لكنه العدل في أسمى كماله وجلاله، وكذلك تجلى ميثاق الرحمة المطلقة، في عصمة دماء من تفوهوا بالشهادة من غير المسلمين في الغزوات والحروب، وإن كانت قلوبهم لها منكرة، وكيف تربد وجه رسول الله وتمعر غضبه على إثر ما فعل أحد الصحابة ( أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله) ..
وفي مقالتنا تلك، نكمل المسير في ظلال قبسات هذه السورة بمواثيقها المفعمة بالحق والصدق، فلنستشرف بهذا الميثاق الأروع، الذي تقرره الآية رقم (36) والمسماه بآية الحقوق العشرة أو الوصايا العشر ، وايم الله لو لم تكن في كتاب الله غيرها، لكانت حُجة على العالمين، لأنها أقرت حق الله على خلقه بأن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئاً ، وكفلت حقوق الوالدين، وصلة الرحم ، والإحسان باليتامى والمساكين، وأقرت حق الجوار أكان من أولي القربى أو ذمياً مشركاً، وكذلك خولت حق الزوجة ( والصاحب بالجنب) ، ومنحت لابن السبيل حقه، وكذلك رقت لملكات اليمين، فأجملتهم جميعاً ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا) 36
ولماذا سورة النساء تحديداً ؟
لأنها أعطت ميثاق حماية الذرية الضعيفة واليتامى الذين مات عنهم آباؤهم الصالحون من الضيعة والإملاق ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا ) 9
ثم لماذا سورة النساء أيضاً ؟
لأن فيها الذكر الأول للإنسان في القرآن الكريم ، ونعته بالضعف فيما لم يوصف مخلوق آخر بالضعف في القرآن كله غيره ( يريد الله أن يُخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) 28
فلماذا سورة النساء كذلك؟
لشمولها على آية ترتعد لها الفرائص جميعاً ، لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وهي كذلك تعطي لمحة إعجازية بلهجة تحذيرية( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً) 56
هذه الآية ميثاقٌ من الله على سائر خلقه، وهو الذي عز في عليائه فحكم بعدله ، بأن من يموت على غير ملة الإسلام ، فسوف يصليه ناراً، وموطن الإعجاز في هذا الميثاق ، ليس في عذاب النار فحسب، وإنما في مركز الإحساس الشعوري بلفح النار، إنه الجلد دون العظم، وهذا هو الإعجاز الذي أقر به أطباء الغرب نصارى ويهود وملحدين كل صاغرون….
كلما انشوت جلودهم واحترقت، بدلناهم جلوداً أخرى غير محترقة، حتى إذا انشوت واحترقت، أعيدت فانشوت فاحترقت، في تكرار واصب، حتى قال أحد المفسرين تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة، وقال آخر تبدل في الساعة مائة مرة، وقال ثالث تبدل في الساعة عشرين ومائة مرة… وفي كل الأحوال من يطيق تبديل جلده من لهيب النار ولو مرة واحدة، بل من ذا الذي يكون جلداً وصبراً على نفحة واحدة من نفحات جهنم؟
لا جرم أنها مواثيق سماوية سامية برزت في أجل صور بيانية، دنت من الثلاثين في سورة النساء ، أحدها لله على خلقه بأن يعبدوه مجرداً من الشرك، وأحدها لله العلي الكبير على نفسه، بأن يرزق الخلق ويسعهم برحمته ويعفو عنهم كل الذنوب ، ما لم يشركوا به ، ومواثيق للعباد على بعضهم بعضاً ، ألا يتظالموا ولا يتشاحنوا ولا يتقاتلوا إلا بالحق….. وكل هذه المواثيق المقررة في سورة النساء ، مستمدة من الوحي الإلهي الأصدق….
ثم لماذا مواثيق سورة النساء ؟
البقية في المقالات القادمة
التعليقات