ونكمل الجزء الثانى مع ماذا بعد رمضان؟ وقد توقفنا مع عبادة الصحابة والسلف الصالح فقال عبد العزيز بن أبى رواد ” أدركتهم يجتهدون فى العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا، ولقد كانوا رحمهم الله يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم” وإن من علامات قبول الطاعة الطاعة بعدها، فعلينا مواصلة الطاعات ومتابعة القربات، ولا يكن آخر العهد بالقرآن ختمة رمضان، ولا بالقيام آخر ليلة من لياليه، ولا بالبر والجود آخر يوم فيه، وإذا كان رمضان قد انقضى فإن الصيام والقيام وتلاوة القرآن والعبادة والطاعة لم تنقض، ومن كان يعبد رمضان فإنه ينقضي ويفوت ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وبئس العبد عبد لا يعرف ربه إلا في رمضان، ولقد حذرنا الله تعالى أن نكون مثل بلعام بن باعوراء، عالم بني إسرائيل الذي أذاقة الله حلاوة الإيمان وآتاه أياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها.
وحذرنا ربنا سبحانه أن نكون مثل “ريطة بنت سعد” امرأة مجنونة كانت بمكة، كانت تغزل طول يومها غزلا قويا محكما ثم آخر النهار تنقضه أنكاثا، أى تفسده بعد إحكامه، وحذر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم من ترك الطاعة بعد التعود عليها فقال لعبد الله بن عمرو “ياعبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل” وسئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن عمله فقالت” كان عمله ديمة” رواه البخارى ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم “إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل” رواه مسلم، وهاهو شهر رمضان قد مضى، مضى بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، بعد أن كان ملء أسماعنا وأبصارنا، وحديث منابرنا، وزينة منائرنا، وسمر مجالسنا، وحياة مساجدنا، مضى وخلف الناس بعده بين شقي وسعيد، وفائز وخاسر، ولقد فاز في رمضان من فاز بالرحمة والغفران، والعتق من النيران، وخسر من خسر بسبب الغفلة والبطلان، والذنوب والعصيان، فليت شعرى من المقبول منا فنهنيه، ومن المطرود فنعزيه؟
وإن امرءا ينجو من النار بعد ما، تزود من أعمالها لسعيد، ونحن ما زلنا نعيش في آثار نفحات رمضان يجب علينا أن نقف لنتساءل ماذا بعد أن انقضى رمضان؟ وما هو حالنا بعد أيام قليلة من رمضان؟ ماذا بعد شهر الرحمة والغفران؟ وماذا بعد شهر التوبة والرضوان؟ ماذا بعد أن اكتحلت عيوننا بدموع المحبة والخوف والرجاء، وعزت جباهنا بالخضوع والذلة لرب الأرض والسماء؟ بعد أن عاينا القرب والإقبال وشاهدناه، القرب من الله لعباده، والقرب من العباد إلى الله، ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا، بعد أن عايشنا كل ذلك، كان ولابد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟ والإجابة نزل بها الوحي منذ مئات السنين، وأجاب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم على السائلين الطالبين العلاج الناجع والدواء النافع، فقال “قل آمنت بالله ثم استقم” فإذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان.
فيلزمك أيها الموحد معها وتحت ظلها أن تستقيم وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه الاستقامة، فيقول الله تعالى “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم” ومن الأسباب المعينه على الإستقامه هى المجاهدة، بأن تعلم أن الاستقامة لا تتحصل بالهجوع في المضاجع، ولا بالاستمتاع بكل ما لذ وطاب من الشهوات والملذات، بل تتأتى بالمجاهدة والمثابرة والمصابرة، فإن مجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان، ومثابرة على فعل المأمورات والإكثار من الطاعات، ومصابرة عن الشهوات والمنهيات، حتى تأتي بأمر الله على تمامه، فقيل للإمام أحمد متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال إذا وضع قدمه في الجنة، وقال الشافعى لا ينبغى للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نصب حتى يلقى الله تعالى.
فإن الله لا يمن عليك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها، وأيضا رفقة أهلها، وهذا من أكبر العون عليها، ومن أعظم أسباب الثبات عليها، وقد قال جعفر بن محمد “كنت إذا أصابتني فترة جئت فنظرت في وجه محمد بن واسع، فأعمل بها أسبوع ” وإنما سهلت الطاعة في رمضان لكثرة الطائعين، ووجود القدوات ييسر الأعمال، وإنما الوحشة في التفرد والغفلة تركب الواحد وهي من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإن من ذاق حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، فليحافظ حتى إذا انقضى الشهر المبارك لا ينسلخ من آيات الله، ولا ينقض غزله من بعد قوة أنكاثا، فعلى الذين كانوا يحافظون على الصلاة فلما انقضى رمضان أضاعوها واتبعوا الشهوات، وعلى الذين كانوا يجتنبون شرب المحرمات ومشاهدة المنكرات وسماع الأغنيات فلما غاب رمضان عادوا إليها.
وعلى الذين كانوا يعمرون المساجد ويداومون على قراءة القرآن فلما مضى رمضان هجروا المساجد وهجروا القرآن، وقد قال أهل العلم إن من أعظم علامات الرد وعدم القبول عودة المرء إلى قبيح الأعمال بمجرد انتهاء زمان الطاعة، ولقد علمنا ديننا أن العبادة لا تنقطع ولا تنقضي بانتهاء مواسمها فما يكاد ينتهي موسم إلا فتح الله لنا موسما آخر فبمجرد انتهاء آخر ليلة من رمضان بدأت بشائر موسم الحج، وهو الأشهر المعلومات فى قوله تعالى “الحج أشهر معلومات” وأولها باتفاق أهل العلم هو بداية شهر شوال، وسن لنا رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال كما جاء في صحيح مسلم عن أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر” وليس لانقضاء العبادة غاية إلى الموت كما قال تعالى لنبيه “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” ويقول تعالى “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” أى أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم.
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال، قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها، وعن سعيد بن نمران قال، قرأت عند أبي بكر الصديق رضى الله عنه هذه الآية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” قال رضى الله عنه هم الذين لم يشركوا بالله شيئا، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا”؟ قال فقالوا “ربنا الله ثم استقاموا” من ذنب، فقال لقد حملتموها على غير المحمل “قالوا ربنا الله ثم استقاموا” فلم يلتفتوا إلى إله غيره، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله أرخص ؟ قال قوله “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” على شهادة أن لا إله إلا الله ، وكذلك تلا عمر بن الخطاب رضى الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال “استقاموا” والله، لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب، وعن ابن عباس “قالوا ربنا الله ثم استقاموا” على أداء فرائضه.
التعليقات