ونكمل الجزء الرابع عشر مع الشهادة من أجل الوطن، وقد توقفنا عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم” القتلى ثلاثة مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه فذلك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ومؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء للخطايا وأدخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء، ومنافق جاهد بنفسه وماله فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل فذاك في النار إن السيف لا يمحو النفاق” رواه الدارمي، وعبارة إن السيف محاء للخطايا هو يفيد أن الشهيد تمحى عنه ذنوبه، لأنه بذل نفسه لله، فجوزي بتكفير ذنوبها، والمعنى أن الكافر إذا قتل مسلما لم يترك عليه ذنبا، لأن الشهيد تكفر ذنوبه كلها، أما المقتول في غير الجهاد فلا تمحى ذنوبه بقتله، ولو كان مظلوما، نعم يكفر عنه بعضها، باعتبار القتل مصيبة نزلت به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية من سورة الزمر؟ ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله “من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم ؟ قال هم شهداء الله” وقد أفاد الحديث أن الشهداء هم المستثنون من الصعق في الآية، قال بذلك جماعة من العلماء، عن سمرة قال النبي الله صلى الله عليه وسلم “رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بى الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا أما هذه الدار فدار الشهداء” رواه البخارى.
وقد تقدم في الأحاديث السابقة أن الشهيد يغفر له في أول دفعة من دمه، وأن ذنوبه تكفر باستشهاده، إلا أنه يستثنى منها الدين، للذين كان يقدر على الوفاء به ولم يفعل، وذلك، لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين” رواه مسلم، وعن أبى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم” قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك” رواه مسلم، وقد أفاد الحديث أن جبريل عليه السلام نزل خاصة ليخبر النبي الله صلى الله عليه وسلم أن الدين لا يغفر للشهيد، لأنه حق لآدمى، لم يتنازل عنه، فإن ترك الشهيد ما يقضي منه دينه، أو أوصى بأن يقضى عنه، كما أوصى عبد الله ابنه جابرا، حين خرج في غزوة أحد، أو قضاه عنه أحد أقاربه، أو بعض المسلمين، فإن الله يغفر له، ولا يعاقب عليه، أما الدين إذا أخذه المرء في حق واجب، لفاقة أو عسر، ثم مات، ولم يترك له وفاء، فإن الله تعالى لا يحجبه عن الجنة برحمته تعالى، شهيدا كان أو غيره، لأن على الحاكم فرضا أن يؤدى عنه في هذه الحالة.
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته” رواه البخارى، فإن لم يؤد عنه السلطان، فإن الله تعالى يقضى عنه، ويرضى خصمه، وأما من استدان في سفه، أو سرف، فمات ولم يوفه أو ترك له وفاء، ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يوفه، فهذا الذي يحبس به صاحبه عن الجنة، حتى يقع القصاص بالحسنات والسيئات ممن استدان، وقد اتفق العلماء على أن الشهداء ثلاثة أقسام، وهم شهيد الدنيا والآخرة، فهو الشهيد الكامل الشهادة، وهو أرفع الشهداء منزلة عند الله عز وجل، وأفضلهم مقاما في الجنة، وهو المسلم المكلف الطاهر، الذي قتل في المعركة مخلصا لله النية، مقبلا غير مدبر، سواء قتله أهل الحرب أو البغي أو قطاع الطريق، أو وجد في المعركة وبه أثر القتل، أو قتله مسلم أو ذمي ظلما بآلة جارحة ولم تجب بقتله دية وكان موته فور الإصابة، أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب ولم يعلم سبب موته، سواء أكان عليه أثر دم أم لا، وسواء مات في الحال، أو بقي زمنا ثم مات بعد ذلك، وسواء كان أكل أو شرب ووصى أم لا، وسواء أكان رجلا أو امرأة بالغا أو غير بالغ، أو هو شهيد المعركة هو المسلم الذي وقع قتيلا بين الأعداء في أثناء المعركة ومات فور إصابته، ولا فرق بين أن يكون قتله بقذيفة مدفع، أو صاروخ، أو رصاصة بندقية أو مسدس، أو قنبلة طائرة أو لغم في أرض أو سيف أو رمح أو سكين أو عصا أو دبابة تسير على جسده، أو بأى وسيلة أخرى مباشرة أو غير مباشرة في القتل.
ولو كان المقاتل يركب سيارة أو دبابة أو طائرة، في أثناء المعركة، وهو قائم بعمل يتصل بالمعركة، وتدهورت السيارة أو الدبابة أو هوت الطائرة سواء كان ذلك بفعل العدو أو غير فعله، فقتل، فهو شهيد معركة، كذلك والأصل في ذلك شهداء غزوة أحد إذ لم يقتلوا كلهم بالسيف والسلاح بل منهم من دمغ رأسه بحجر، ومنهم من قتل بالعصا، ومع ذلك فقد عمهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بترك الغسل، ولو قاتل العدو المقاتلين حتى ألقاهم في بحر أو نهر أو بركة فماتوا أو مات بعضهم فهم شهداء معركة، ومن قتله المسلمون في المعركة خطأ، أو قتل نفسه في المعركة بيده خطأ، كأن رمى قنبلة على الأعداء فأصابته وقتلته فهو شهيد معركة، وإذا جرح أحد المقاتلين في المعركة وحمل حيا من ساحتها، ولم يعش عيشة مستقرة بعدها، كأن يبقى فاقد الوعي ثم مات، وهو على هذه الحال، فهو شهيد معركة، وإذا أغار العدو على جماعة من المسلمين سواء أكانوا عسكريين أم مدنيين، وسواء كانوا في معركة أو في مدينة أو في قرية أو في مضارب البدو فقتل منهم أناسا، فإن كل قتيل منهم شهيد، له حكم شهيد معركة، وأما عن شهيد الدنيا فكما قلنا بأنه هو من غل من الغنيمة أو مات مدبرا، أو من قاتل لتعلم شجاعته، أو طلبا للغنيمة فقط، وأما عن شهيد الآخرة، فهو كما قلنا من أثبت له الشارع الشهادة، ولم تجر عليه أحكامها في الدنيا، أي أنه كباقي الموتى يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، وقد جعلهم الشارع في حكم الشهداء، لخصلة خير اتصفوا بها، أو لمصيبة أصابتهم فقدوا فيها حياتهم.
وقد ذكر العلماء، بناء على ما ورد من أحاديث، أن شهداء الآخرة كثيرون، وقد عدها السيوطى ثلاثين، وأوصلها بعضهم إلى الخمسين فمن ذلك طالب الشهادة، والمطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، وصاحب ذات الجنب، والحريق، والمرأة تموت بالنفاس، والمقتول دون ماله، والمقتول دون مظلمته، أو دون دينه أو أهله أو دمه، والميت بالغربة، والمواظب على قراءة آخر سورة الحشر العامل بما فيها، وطالب العلم، والمقتول صبرا، والمقتول بسبب قوله كلمة الحق للحاكم، وأما عن غسل الشهيد وتكفينه، فإن الشهيد الذي قتل بأيدى الكفار في المعركة لا يغسل، عند جمهور العلماء، وإن كان جنبا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل حنظلة الراهب، وقد استشهد جنبا، ويكفن الشهيد في ثيابه الصالحة للكفن، ويدفن في دمائه، ولا يغسل شيء منها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تغسلوهم” فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ولم يصل عليهم “رواه أحمد، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا “رواه البخاري، وقال الشافعى لعل ترك الغسل والصلاة لأنهم يلقون الله بكلومهم، وأما عن تعريف الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه، فقد ذهب الفقهاء إلى أن من قتله المشركون في القتال، أو وجد ميتا في مكان المعركة وبه أثر جراحة أو دم، لا يغسل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد ” زملوهم بكلومهم ودمائهم “رواه أحمد، ولم ينقل خلاف في هذا، وقد ذهب المالكية والشافعية إلى أن كل مسلم مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال لا يغسل.
سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو سقط عن دابته، أو رمحته دابة فمات، أو وجد قتيلا بعد المعركة ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم أم لا، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والبالغ والصبى، وأما عن الصلاة على الشهيد فقد جاءت الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا يصلي عليه، ومنها عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم” يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم” رواه البخاري، وأن أنس بن مالك حدثهم أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم” رواه أبو داود، وجاءت أحاديث أخرى صحيحة مصرحة بأن يصلي عليه، فعن عقبة بن عامر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف، وعن يزيد بن أبي حبيب قال إن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على قتلى أحد بعد ثمانى سنين كالمودع للأحياء والأموات” رواه أبو داود، وقد اختلفت آراء الفقهاء تبعا لاختلاف هذه الأحاديث، فأخذ بعضهم بها جميعا، ورجح بعضهم بعض الروايات على بعض، فممن ذهب مذهب الأخذ بها كلها “ابن حزم” فجوز الفعل والترك قال، فإن صلي عليه فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، واستصوب هذا الرأي ابن القيم.
فقال والصواب في المسألة إنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذه إحدى الروايات عن أحمد، قال والذي يظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن، وقد قتل معه بأحد سبعون نفسا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم، وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح وصريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره، ويرجح أبو حنيفة والثورى والحسن وابن المسيب روايات الفعل، فقالوا بوجوب الصلاة على الشهيد، ورجح مالك والشافعي وإسحاق وإحدى الروايات عن أحمد العكس وقالوا بأنه لا يصلى عليه، وقال الشافعي فى ” الأم ” جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وما روى أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت، من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة ثم مات، يغسل ويصلى عليه، وإن كان يعد شهيدا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سعد بن معاذ، وصلى عليه بعد أن مات بسبب إصابته بسهم قطع أكحله، فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما ثم انفتح جرحه فمات شهيدا، ومن عاش عيشة، غير مستقرة، فتكلم، أو شرب ثم مات، فإنه لا يغسل ولا يصلي عليه.
التعليقات