ونكمل الجزء الثالث مع خامس الخلفاء الراشدين، وقد توقفنا عند بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير، فولى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة، وذكر الذهبى أنه ولد بالمدينة فى زمن يزيد بن معاوية، وقد نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول يا أماه، أنا أحب أن أكون مثل خالي، ويريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له اغرب، أنت تكون مثل خالك، وتكرر عليه ذلك غير مرة، فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان.
إلى مصر أميرا عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها خلفي هذا الغلام عندنا وهو يريد عمر بن عبد العزيز، فإنه أشبهكم بنا أهل البيت، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلما، وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة.
من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب، وقد جمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه، وأيضا قدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيرا بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه.
فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت ما يبكيك؟ قال ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك، وقد عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحا شرب منه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، كما أمّ بأنس بن مالك فقال ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، وقد تربى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز وهو والد عمر، صالح بن كيسان ليكون مربيا لعمر.
فتولى صالح تأديبه، وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوما أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال كانت مرجّلتي أى مسرحة شعري، تسكن شعري، فقال بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال ما خبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام، وكان يحرص على التشبه بصلاة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أشد الحرص، فكان يُتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وكان من شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم.
التعليقات