عند دراسة أنواع رئاسة الدولة في الوطن العربي، وجدنا من الضروري البحث أولاً في مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يعد المعيار الأساسي لقياس مدى ديمقراطية الأنظمة السياسية القائمة من عدمِها، سواء كان النظام ملكياً أم جمهورياً.
أولاً :فكرة الفصل بين السلطات في الدولة.
إن فكرة الفصل أو تعدد الهيئات ( السلطات ) في الدولةِ قديمة جداً، إذ تناول بالحديثِ فلاسفة الإغريق مثل ( افلاطون وآرسطو ) عن سلطات الدولة، وقد حصرها ( آرسطو) بثلاثِ سلطات أو هيئات هــي :
1ـ الهيئة التشريعية : وهي عبارة عن جمعيةِ الشعب، مهمتها تشريع القوانين ومداولتها، ومراقبة السلطة التنفيذية، واقرار الموازنة والبيانات الختامية لها.
2ـ الهيئة التنفيذية :وتتألف من الأشخاص الذين تعينهم جمعية الشعب. وتتولى تنفيذ القوانين، وسير العملية السياسية.
3ـ الهيئة القضائية : وهي مجموعة المحاكم والقضاة الذين يقومون بتطبيقِ القانون.
والقول بوجودِ هذه الهيئات في الدولة لم يكن القصد منه ضرورة الفصل التام بينهما، ولكن من وجود قواعد التعامل والتعاون فيما بينهم. أن فكرة الفصل بين السلطات كانت سلاحاً لمحاربة الاستبداد والدكتاتورية والملكية المطلقة التي كانت تجمع كل الصلاحيات في يدِها.
وفي وقتِنا الحاضر تراجعت نظرية الفصل بين السلطات لتحل محلها فكرة سلطة الشعب (وحدة السلطة ) التي تمارس بواسطةِ ممثلين يختارهم الشعب بكلِ حريةٍ مع الاعتراف بوجودِ هيئات متخصصة كما ذُكرت سابقاً. أولها تعمل في التشريع، وتعمل الثانية بالتنفيذ، وتختص الثالثة بالقضاء…، وتقوم عدة أنظمة سياسية على أساسِ الفصل بين السلطات غير أن تطبيق المبدأ يختلف من نظامٍ الى آخر، إلا أنها جميعها تشترك في وجودِ برلمان منتخب ( هيئة تشريعية )، وحكومة أو وزارة ( هيئة تنفيذية )، وهيئة ثالثة يفترض أن تكون مستقلة، وتقوم بتطبيق القانون بكلِ حرية واستقلال وتعرف باسم السلطة أو الهيئة القضائية، ومن خلالِ تطبيق تلك الهيئات للمبدأ بالشكلِ الصحيح؛ سوف يتم تحقيق العديد من المزايا منها :
1ـ صيانة الحريات العامة ومنع الاستبداد.
2ـ المساهمة في تحقيق دولة القانون.
3ـ جني فوائد تقسيم وظائف الدولة.
1ـ صيانة الحريات العامة ومنع الاستبداد :
يتضح للجميع من خلالِ البحث في مضمون الفصل بين السلطات وكما أوضحهُ العديد من السياسيين والمختصين بهذا الشأن، بأن هذا الفصل سوف يؤدي الى عدم تركيز السلطات في يدِ هيئةٍ واحدةٍ من أجلِ عدم الإساءة في الممارسةِ السياسية، أيضاً تقوم كل سلطةٍ بمراقبةِ السلطات الأخرى؛ لكي توقفها عند حدها إذا ما حصل تجاوز حدود سلطاتها أو أساءت استعمالها، لذلك يعد مبدأ الفصل بين السلطات ضمانة أساسية من الضماناتِ التي تكفل الحرية وتصونها من كلِ اعتداءِ على حقوقِ الأخرين، ووسيلة همة لمنع استبداد الهيئات العامة وتعسفها في استعمالها لسلطاتها المختلفة.
2ـ المساهمة في تحقيقِ دولة القانون :
إن اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات، يعدُ تكريساً مهماً في سبيلِ ادارة الدولة، واعلاء القاعدة القانونية والمحافظة على سيادةِ الدولة لتكون أسمى من المؤسساتِ والأفراد وبذلك تكون ضمانة اساسية تكفل قيام دولة القانون، قولاً وفعلاً.
3ـ جني فوائد تقسيم وظائف الدولة :
إن توزيع الوظائف العامة في الدولة بين السلطات الثلاث آنفة الذكر، يؤدي الى جني الفوائد التي تعود من تطبيقِ مبدأ تقسيم العمل والتخصص فيه. إذ ينتج عن هذا التقسيم إتقان كل سلطةٍ لعملها على أحسنِ حال، مما يحقق في النهاية الوجه الأفضل في سير العمل في جميع المجالات الرئيسية في الدولةِ التشريعية، والقضائية والتنفيذية. وليكون الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث هو الغاية المبتغاة في الدولةِ، مع القيام بجانبٍ من التعاونِ فيما بينها لتنفيذ وظائفها بشكلٍ من التوافق والانسجام ووجود رقابة متبادلة بينها لضمان وقوف كل سلطةٍ عند حدودها المخصصة لها دون تجاوز أو تعدي على السلطاتِ الأخرى…
ثانياً :تقسيمات رئيس الدولة في الوطن العربي .
أهتــم العديــد من الفلاسفة والمختصين بشأنِ دراسة الحكومات والدول منذ القدم بدءاً من ارسطو وافلاطون حتى وقتنا الحاضر، وبالتالي تنوعت تقسيمات الحكومات والدول وفقاً لنظرية كل منهم الى الحكومة… ولسنا هنا في معرضِ الخوض في دارسة التقسيمات التي طرحها كل كاتب أو مختص، اعتقاداً منه أنها الطريقة المثلى، مما جعل كل فريقٍ على أن يتحمس للاتجاه الذي يراه على أنه الصحيح، ولكن علينا الإشارة الى أن النظم السياسية على مر عصورِها كانت عرضة للتغيير والتبدل لتلائم كل فترةٍ وكل جيلٍ وكل بيئةٍ. انطلاقاً من مبدأ أن نظام الحكم هو ذلك الذي تتفاعل معه البيئة التي يولد فيها… وكان ذلك التطور في الأنظمة السياسية ونظم الحكم انعكاساً لوعي الشعب وانتشار الثقافة وأدى الى نقل النظم السياسية من اطارها التقليدي الى واقعها المعاصر… فبعــد أن كان النظام الملكي هو السائد في الماضي اخذ النظام الجمهوري بالظهور على انقاضهِ، كما تقلص وجود الحكم المطلق ( الفردي ) ليحل محله الحكم الديموقراطي. وسيتم هنا تناول التقسيمات الرئيسة الشائعة والمألوفة للحكومات في وقتنا الحاضر والتي تقسم الى ما يلي:
1. الحكومات القانونية والحكومات الاستبدادية : وذلك من حيثِ خضوع الحكومة للقانون من عدمهِ.
2. الحكومات المقيدة والحكومات المطلقة : وذلك من حيثِ تركيز السلطة وتوزيعها.
3. الحكومات الملكية والحكومات الجمهورية : وذلك بالنظر للكيفية التي تمارس بها رئاسة الدولة.
4. الحكومات الفردية والحكومة الأقلية : وذلك من حيثِ مصدر السلطة.
5. الحكومات الديموقراطية : ممثلة بالحكومات المنتخبة من قبلِ الشعب وممثلة عن الشعب، وتمارس تدول السلطة سلمياً، والشعب مصدر السلطة.
لا يمكن تصور وجود دولة، وكونها أعلى مؤسسة إنسانية، بدون أن تكون هناك حكومة تعد أعلى المؤسسات السياسية. فالحكومة( Government) هي المؤسسة التي من خلالِها تتحول ارادة الجماعة، وباسم الدولة الى قواعدٍ شرعيةٍ عامة ملزمة… بمعنى سيادة مبدأ الشرعية، والذي يعني خضوع جميع أنواع نشاط الدولة وما يتفرع عنها من قواعدٍ قانونيةٍ. وبحسب الأستاذ ثروت بدوي في كتابة النظم السياسية 1964م، بأنه يقصد بكلمة الحكومة الهيئة الحاكمة أو مجموع السلطات العامة في الدولة. إلا أن استخدام مصطلح الحكومة جاء في معانٍ مختلفة:
1. الحكومة بالمعنى الواسع ـ وبحسب ما جاء به ( جورج بوردو ) في كتابهُ ” العلوم السياسية الجزء الرابع ” بأنها ممارسة السلطة في جماعة سياسية معينة. وبالتالي يكون معنى الحكومة: في نظام الحكم في الدولةِ، بمعنى كيفية ممارسة صاحب السيادة للسلطة العامة وشكل الحكم فيها.
2. والحكومة تأتي بحسبِ ” موريس دوفرجيه ” في كتابهِ ” القانون الدستوري والتنظيم السياسي “: بأنها مجموعة الهيئات الحاكمة والمسيرة للدولة أي السلطات العامة للدولة وهي ( التشريعية، التنفيذية، القضائية ).
3. كما استعملت الحكومة بمعنى الاشارة الى الوزارة، خصوصاً في الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني ( بريطانيا مثلاً ). فإذا قيل بأن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، فأن الحكومة هنا تنصرف الى معنى الوزارة، أي أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان. كما أن رئيس الحكومة في النظام البرلماني يُقصد به رئيس الوزراء…
4. أيضاً يشير الى الحكومة بالإدارة ـ مثلاً ـ الإدارة الأمريكية.
ورغــم هذا التعدد في الاستعمالاتِ لكلمة الحكومة، فأنها تعني جميع الهيئات الحاكمة في الدولة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية )، والتي تعني طريقة استخدام السلطة وممارسة الحكم بالاعتمادِ على الدساتيرِ في هذا الخصوصِ. وعلى الرغـمِ من أن هناك العديــــد مــن هـــــــذه التقسيمات وفقاً لما تقدم، والتي تنطبق الى حدٍ ما على الأنظمة السياسية في الوطنِ العربي، إلا أننا سنركز على الحكومةِ الملكية، والحكومة الجمهورية، على اعتبار أن أغلب الأنظمة السياسية العربية تقع تحت هذا التقسيم وهي بالآتي:
1. الحكومة الملكية.
2. الحكومة الجمهورية.
1ـ الحكومة الملكية :
يُشار الى أن الحكومة الملكية ( Monarch Government ) على أنها الحكومة التي يتولى زمامها ملك أو سلطان، أي آلية الحكم وطريقة التوارث بحيث يُعتبر أرثاً له ووقفاً عليه مدى الحياة بدون منازعة من أحــد، وفي هذا النظام أو الحكومة يمارس الملك وحده، جميع اختصاصات الدولة وعلى رعاياه الطاعة، ولقد عبرَ لويس الرابع عشر ملك فرنسا عن هذا المفهوم بقولهِ ” أنا الدولة، والدولة أنا “، وفي هذا النوع من الأنظمةِ السياسية يرسم الملك السياسة التي يتبعها ويمارس السلطة بالشكلِ الذي يريد. وبمرورِ الوقت، تطابقت في بعضِ الأحيان مصلحة الملك ومصلحة الجماعة، مما دفع بعض الكتاب والمختصين الى القولِ بأن بعض الملوك وخاصة في القرن الثامن عشر، قد مارسوا صلاحياتهم المطلقة باتجاهٍ يخدم المصلحة العامة للجماعة . كما وأن الأنظمة الملكية الحالية، أصبحت مقيدة بشكلٍ أو بآخر وبدرجاتٍ متفاوتةٍ.
2ـ الحكومة الجمهورية :
تقوم هذه الحكومة على أساس أن الحاكم يكو منتخباً من قبلِ الجماهير ولمدة محددة يحددها الدستور في كلِ بلدٍ ونظامهِ.
فهناك فوارق بين الحكومتين ( الملكية والجمهورية ) يمكن إجمالها بما يأتي:
بالنسبة الى ملك الدولة في النظام الملكي، فهو يستند في سلطتهِ الى المبدأ الوراثي في الحكمِ، بناءاً على ما ورثه من أسرتهِ الحاكمة، فيظل الحكم محصوراً فيه وفي ذريتهِ من بعدهِ.
أما النظام الجمهوري، فهو يساوي بين الأفراد، حيث يمنحهم حق الترشح لهذا المنصب، بعد توافرِ شروط معينة، فهو يستمد سلطته من إرادة المواطنين، وهذا الأمر يقودنا الى معرفةِ المدة التي يبقى فيها الرئيس أو الملك في الحكمِ، فحكم الملك يبقى مدى الحياة لقيامه على مبدأ الوراثة، وما يعنيه ذلك من ديمومةِ العرش، أما رئيس الجمهورية، فيرتقي سدة الحكم لمدة محدودة، وهذا ما تكشفُ عنه الدساتير المختلفة. وبينما نجــدُ الدساتير في الأنظمةِ الملكية تُعنى بطريقةِ توارث وتوازن العرش، والقواعد المنظمة له، نجــدُ الدساتير الجمهورية من جهةٍ أخرى تهتم بالكيفيةِ التي يتــمُ بها انتخاب رئيس الجمهورية، وتحديد فترة الرئاسة، وإمكانية إعادة انتخاب الرئيس من عدمهِ.
ومن الفروق الجوهرية أيضاً تلك المتصلة بالمسؤولية. فالدساتير الملكية تقرُ قاعدة مفادها: إن ذات ( شخصية ) الملك مصونة لا تُمس واحترامه واجب، وتبعاً لها لا يُسأل الملك عن أعمالهِ وتصرفاتهِ، حتى لو كانت هذه الأعمال مما يدخل في عداد الجرائم الجنائية، سواء تعلقت بوظيفتهِ أو لا، وهذه القاعدة أو العرف نشأت في بريطانيا، والأخير طبقاً لهذه القاعدة أيضاً غير مسؤول سياسياً؛ لأن وزرائه يتحملون عنه تبعات المسؤولية السياسية، وبهذا المبدأ أخذ الدستور المصري الصادر عام 1923م على سبيل المثال.
أما الدساتير الجمهورية، فهي تقرر مسآئلة الرئيس جنائياً عن كلِ عملٍ ليس من وظيفتهِ، فقد يؤدي تماديه فيها الى اقترافِ جرائم ضد الدولة كالخيانة، وتمتد هذه المسائلة الجنائية أيضاً لتشمل الجرائم العادية التي يرتكبها، ولا علاقة لها بوظيفتهِ، مثل أي فرد من أفراد المجتمع.
ولا تتفق الدساتير فيما بينها حول هذه المسؤولية، فبعضها يكتفي بتقريرِ المسؤولية الجنائية لرئيس الدولة أو إعفائه من المسؤولية السياسية، في حين تسير بعضها على قاعدةٍ ثابتةٍ تترتب بمقتضاها بعزل الرئيس في حالِ ثبوت تورطه حتى ولو لم تنتهي الفترة الرئاسية لمقررة له. ومن هذه الدول التي لا تزال تطبق خصائص النظام الملكي : المملكة العربية السعودية، والأردن، والأمارات العربية، قطر، البحرين، الكويت، المملكة المغربية العربية. والملاحظ أن هذا العدد لا يُعــدُ كبيراً نسبياً، لا سيما مع إنحسار النظم الملكية على مستوى العالم، بل وعلى مستوى المنطقة العربية ذاتها، حيث شهدت الفترة بين 1950ـ 1970، سقوط خمسة نظم ملكية في كل من : مصر وتونس والعراق واليمن وليبيا.
ويرجع سبب أرتفاع نسبة النظم الملكية في المنطقة العربية، بأن تلك النظم قد أستفادت في واقعِ الأمر من مجموعةٍ من العواملِ المؤاتية، ومن أبرزها وبأستثناءِ كل من ( الأردن والمغرب ) متمثلة بأعتمادِأقتصادها على النفطِ، وتتمتع من ثم بفوائضٍ ماليةٍ تؤمن بها دعم مواطنيها، ومنها انحسار المــد القومي الذي شهدته المنطقة في عقدي الخمسينات والستينات، ومن ثم تعلمها من تجارب النظم الملكية السابقة، وسعيها لتطعيم المصادر التقليدية لشرعيتها بمصادرٍ أخرى، مثل العقلانية القانونية، وتشترك النظم الملكية العربية في العديدِ من الخصائص :
إن الوراثة فيها تسير في خطِ الأبوة وليس الأمومة. بمعنى أن صلة النسب تتحدد عن طريقِ الأب. كما أن تلك الوراثة تنحصر في خطِ الذكور وليس الأناث، والملاحظ ان من يقع عليه الخيار ليصبح ملكاً، لابد من ان يحضى بمبايعةِ الأسرة المالكة له بالولاءِ أولاً. كما تشترك الملكيات العربية جميعاً في غلبهِ الطابع العشائري ـ القبلي عليها، وأنها وثيقة الصلة بالغربِ ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، كما أنها تتميز بالتجاور الجغرافي ( عدا المغرب ) التي تقع على ساحلِ البحر المتوسط في الجناحِ الشرقي للمنطقة العربية. والملاحظ أن الملكيات العربية تختلف في بعضِ الخصائص الأخرى من بينها : إختلاف خط الوراثة من نظامٍ الى آخر، ففي السعودية ـ مثلاً ـ يكون خط الوراثة من الأخ الى الأخ من أبناء الملك عبد العزيز آل سعود، أما في المغرب وقطر والبحرين وسلطنة عمان يكون من الأب الى الأبن. وفي الكويت تناوبي دائري، أما في الأردن فهو يجمع بين وراثة الأبن لأبيه ( الملك عبد الله فالملك طلال فالملك حسين )، والأخ لأخيه ( الأمير الحسن ولي عهد الأردن شقيق الملك حسين حتى عام 1999، عندما أنتقلت ولاية العهد الى الأمير عبد الله بن الحسين الذي أصبح ملكاً بعد وفاةِ أبيه. وأصبح شقيقه الأمير حمزة ولياً للعهــد. إن عــدد أفراد الأسرة المالكة يختلف من دولةٍ لأخرى، وذلك بدءاً من درجاتِ التعقيد والتشعب كما في السعودية وإنتهاءاً بأكثرِ درجات الوضوح والتحديد كما في الأردن والمغرب، ولكن على صعيدٍ آخر أختلفت النظم الجمهورية فيما بينها من حيثِ نمط إنتقال السلطة وتداولها سلمياً. بمعنى آخر أن هناك من الدولِ قد أعتمدت في الأساسِ على نقلِ السلطة عن طريقِ الإنقلابات العسكرية. وقد برزت تلك الإنقلابات أساساً في الفترة التالية للأستقلال. وذلك بعد إن فرضت حالة الفوضى والاضطرابات التي شهدتها البلاد، وضرورة الاستعانة بالجيشِ، لمنع تدهور الأوضاع فنجد ـ مثلاً ـ في سوريا قد شهدت عام 1949م ثلاث انقلابات عسكرية، قادها كل من ( حسين الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي ) على التوالي.
كما شهدت الفترة التي تلتها ستة انقلابات، وبهذا يمكن القول أن سوريا كانت تعاني من حالةِ عدم الإستقرار السياسي، أما بالنسبةِ الى ليبيا فقد شهدت محاولتين أنقلابيتين، بعد ثورة الفاتح في أيلول 1969م، وبعد أقل من ثلاثةِ شهور من اعلان العقيد معمر القذافي مبادئ الثورة ( الوحدة والحرية والأشتراكية ). وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة الأولى، ثم عام 1970م وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة الثانية لإعادة الملكية الى ليبيا. وآخرها الأحداث التي شهدتها الساحة العربية من تغييراتٍ والتي إنتهت بإزاحةِ رأس النظام الليبي ( معمر القذافي )، ومن ثم مقتله على أيدي المنتفضين من الشعب الليبي.
أيضاً هناك مجموعة من الدولِ العربية لم تعرف نمطاً واحداً لتداول السلطة، ومن هذه الفئة النموذجان المصري والجزائري، فلقد شهدت مصر خلال الفترة من عام م1952 وحتى عام 1999م، نمطين أساسيين لتداول السلطة، هما التدخل العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي، ومن ثم الأستفتاء الذي جاء بالرئيسِ الراحل أنور السادات، ومن بعده محمد حسني مبارك الى السلطة، ومن ثم إزاحة الأخير بثورةٍ جماهيريةٍ أجبرته على التخلي عن السلطةِ.
كما تقدم الجزائر نموذجاً خاصاً لأنتقال السلطة في النظم السياسية العربية، ففي حين تعاقب على رئاستها ثلاث رؤساء منذ الاستقلال في 1062م وحتى 1991م، شهدت على مدى ثماني سنوات فقط، تعاقب أربعة أشخاص على رئاسةِ الدولة. فبعد إقالة ( الشاذلي بن جديد ) في كانون الثاني 1992م، تكون المجلس الأعلى للدولة برئاسةِ ( محمد بوضياف ) ثم بعد أن تم إغتيال الأخير في تموز من العام نفسه، تولى ( علي كافي ) السلطة، لكن مع عدمِ قدرته على أيجادِ حلول للأزمة في الجزائر.
وقد أجريت أنتخابات رئاسية للمرة الأولى في الجزائر، أسفرت عن فوز ( الأمين زروال ) برئاسةِ الدولة. ومن ثم عجز الأخير عن وقفِ أعمال العنف المدمرة، دعى لأنتخابات رئاسية مبكرة أسفرت في عام 1999م عن فوزِ ( عبد العزيز بوتفليقة ).
ومن الممكن توجيه انتقادات أساسية لتصنيف النظم العربية من منظورِ شكل رئاسةِ الدولة. وذلك أن كون الوراثة هي النمط المعروف لتداول السلطة في النظم الملكية. لم يمنع أستخدام القوة لتغيير شخص الحاكم وذلك من خلالِ وذلك نتيجة خلافات أو صراعات داخل الأسرة الحاكمة، وبالمثل فأن كون الأنتخابات المباشرة وغير المباشرة تعد الأساس لتداول السلطة في النظامِ الجمهوري. فأن ذلك لم يحل دون وصول الكثير من الحكام العرب الى مناصبِهم عن طريق الأنقلابات العسكرية. وعلى صعيدٍ آخرٍ ليس ثمة ما يضمن أن يكون النظام الجمهوري أكثر أحتراماً للحريات العامة وحقوق الإنسان من النظام الملكي.وفي الوقت الذي تشهد فيه بعض الملكيات قيام هيئات برلمانية، فأن بعض الجمهوريات لا تتردد في كثيرٍ من الأحيان في خرق الشرعية الدستورية.
وختاماً، ففي شأن التفرقة بين النظامين الملكي والجمهوري في الوطنِ العربي. نجد أن الفارق بينهما أصبح في سند أسناد السلطة السياسية على أساسِ أن النظام الجمهوري وخلافاً للنظام الملكي. يعتمدُ على الأنتخاباتِ لكن حتى فيما يخص هذا الفارق فقد تضاءلت أهميته على ضوءِ تحول الممارسة العربية في النظم الجمهورية من الأنتخاب الى التعيين ( من خلالِ أختيار الرئيس للنائب الذي يخلفه )، الأمر الذي جعل البعض يتحدث عن جمهورياتٍ ملكيةٍ، في تعبيرٍ عن غيابِ أطر مؤسسية مستقرة لتداول السلطة السياسية، وهذا ينطبق على جميع الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي.
العامل الاقتصادي والاجتماعي .
يُجمع المفكرون على اختلافِ نزعاتهم ومناهجهم على أن العوامل الاقتصادية تلعبُ دوراً بارزاً في تحريكِ الصراع السياسي، ليس فقط على الصعيدِ الداخلي، بل على الصعيدِ الدولي أيضاً. لذلك فأن لهذه العوامل أبلغ الأثر في استقرار المجتمع من عدمهِ، فكلما كانت الأوضاع الاقتصادية للمجتمع مستقرة؛ ساعـد ذلك على تحقيقِ الاستقرار السياسي فيه. والعكس بالعكس، أي إذا كانت الأوضاع الاقتصادية للمجتمع غير مستقرة ومتردية؛ فأن ذلك لا يساعــد على تحقيقِ الاستقرار السياسي فيها، وهذه الأوضاع تعكس حالة التخلف الاقتصادي الذي تتصف به هذه البلدان.وتكمن جذور التخلف في نوعينِ من العواملِ أولهما : يتمثل بالظروفِ الداخلية التي تعيشها المجتمعات العربية مثل ضعف التراكم الرأسمالي الضروري لأي تطور اقتصادي، والدور السلبي الذي لعبته الطبقات والبُنى الاجتماعية المتخلفة، أضافة الى بعضِ القيــم والشروط الثقافية والنفسية التي سادت فترات طويلة في هذه المجتمعات. أمـا الثاني : فهو خارجي يتمثل بدورِ الاستعمار الذي عمل على الدمجِ القسري لاقتصاديات البلدان المتخلفة، وجعلها تابعة لاقتصاديات القوى الاستعمارية من خلالِ نهب المواد الأولية من أجلِ تثميرها في العمليةِ الانتاجية، وجعل هذه البلدان أسواقاً لتصريف المنتجات الصناعية.
وبعد حصولِ البلدان العربية على الاستقلالِ أستمرت حالة التخلف فيها، ويعود ذلك الى نوعينِ من الاسبابِ : النوع الاول خارجي مرتبط بالنظام العالمي الذي يضمن للدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة مضاعفة احتكاراتها عن طريقِ أستغلال الدول النامية، والإبقاء على أوضاعِها الراهنة، أي أن تبقى مورداً أساسياً للمواد الخام والمواد الغذائية، وسوقاً رئيسية للمنتجات الصناعية الرأسمالية، وأن تضل أخيراً موطناً أساسياً لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية. أماالنوع الثاني من الأسبابِ فيتعلق بطبيعةِ الدول العربية وبناءاتها واستراتيجياتها، أي مرتبط بقدراتِها على تحقيقِ الاستقلال الاقتصادي، وإلغاء التبعية الإقتصادية لرأس المال الأجنبي، وإجراء تغييرات إجتماعية حقيقية تلائم مقتضيات التنمية الإقتصادية.
إن حالة التخلف والتبعية موجودة في كافةِ مجالات الحياة الحياةالإقتصادية في البلدان العربية سواء في القطاع الزراعي الذي يُعــد القطاع الأهــم، أم في القطاع الصناعي الذي هو بمثابةِ حجر الزاوية في عملية التنمية، أم في القطاعِ التجاري. وتتميزالهياكل الإقتصادية في الدولِ العربية بإعتمادها بدرجةٍ عاليةٍ على الروابطِ الخارجية، فالإنتاج الإقتصادي مُشَكل بصورةٍ تلبي الحاجات والطلب الخارجي، كما يتميز هذا الإنتاج بدرجةٍ عاليةٍ من التركيزِ السلمي من أجلِ التصدير. فضلاً عن ذلك تُشكل ظاهرة المديونية إحدى سمات التبعية والتخلف في كثيرٍ من البلدان العربية، ويزداد هذا الدين سنوياً بحيث لا تستطيع هذه الدول إيفاءه؛ لأنه لا يذهب أساساً لغرض توسيع القاعدة الإنتاجية، بل غالباً يُنفق لغرض تلبية الحاجات الغذائية الملحة أو للإنفاق على التسلح.
إن لأوضاع التخلف للهياكل الإقتصادية التابعة في البلدانِ العربية علاقة كبيرة بحالةِ عدم الإستقرار السياسي في غالبية هذه البلدان، وذلك من خلالِ محورين : يتمثلُ الأول من خلالِ المشاكل والأزمات التي تنتج من هذه الأوضاع. والثاني يرتبط بالمشاكل الناجمة عن عملياتِ التحديث والتنمية الإقتصادية التي تقوم بها الهياكل السياسية في هذه البلدان للقضاء على التخلفِ. وتُعــد الأزمات ( المشكلات ) الإقتصادية التي تُعاني منها الكثير من البلدان العربية المحور الرئيسي للمشاكل السياسية والإجتماعية والحضارية التي تتعرض لها هذه البلدان، ويأتي في مقدمةِ المشاكل السياسية ظاهرة عــدم الإستقرار السياسي. إن الأزمات الإقتصادية تتحول بسرعةٍ الى أزماتٍ سياسيةٍ، كما ترتبط حــدة الصراع السياسي بصورةٍ وثيقةٍ مع الأزماتِ الإقتصادية، وهذا يعني أن أي تحدي للنخـب والطبقات الحاكمة والمؤثرة في المجتمع يؤدي بصورةٍ مباشرةٍ الى صراعٍ حول السيطرة على جهازِ الدولة وصلاحيات الحكــم.
إن أبرز المشاكل الإقتصادية التي تتميـز بها البلدان العربية ظاهرة إنخفاض مستوى الدخل الفردي كمحصلة لإنخفاض مستوى الناتج القومي في الأقطارِ العربية ما عدا أقطار قليلة منها؛ مما ينتج عنها حالة الفقـر ( Povety ) التي يمكن أعتبارها من أهــم العوامل الرئيسة التي لها علاقة بالصراعاتِ الداخلية، وبالتالي تهديـد الإستقرار السياسي في هذه الأقطار حيث أن الكثير من الثوراتِ والإنقلاباتِ العسكرية وأعمال العنف السياسي الأخرى يكون الفقـر وتردي الأوضاع المعاشية للمواطنين الدافع الرئيسي لها. وهكذا أصبح الفقــر أحـد الأسباب المهمة لظاهرة عـدم الاستقرار السياسي في العديدِ من البلدان العربية. أضافه الى ذلك فأن البلـد المتخلف اقتصادياً لا يتمكن من إشباع حاجات سكان، لا سيما وأن ذلك يترافق مع الانفجار السكاني الذي تشهده البلدان العربية، وعلى عكسِ هذه الزيادة الهائلة فأن الموارد الاقتصادية لا تزيد بالقدرِ نفسه مما يخلق اختلالاً متزايداً في التوازن بين عدد السكان والموارد المتيسره وهذا يجر الى مشاكل اقتصادية واجتماعية، ويُسهم الى حدٍ بعيدٍ في إحداث الثورات والانقلابات في هذه البلدان. وثمة مشكلة اقتصادية أخرى يُعاني منها العديد من البلدان العربية هي مشكلة البطالة.
فالبطالة المستفحلة ولا سيما بين فئات الشباب والمتعلمين تؤدي في كثيرٍ من الأحيانِ الى الشعورِ بحالةٍ من الاضطراب النفسي والتوتر الانفعالي والإحباط. كما وتتحول هذه المشكلة من مشكلة خاصة الى مشكلةٍ عامةٍ مثيرة للاضطراب فتأخذ الجماهير العربية تتسائل عن سببِ عجز الهياكل السلطوية السياسية عن توفيرِ فرص العمل المناسبة لهؤلاء العاطلين، وإذا كانت هذه الهياكل السلطوية السياسية لا تستطيع إيجاد حلول مناسبة لهذه المشكلة؛ فهل يجوز لها أن تستمر في الحكمِ ؟ لذلك تولي الأحزاب والجماعات السياسية في البلدان وخاصة المحضورة منها اهتمامها بتنظيم الشباب العاطل وتُعبئهم ضد النظام من أجلِ الإطاحة بهِ والإتيان بنظامٍ آخرٍ يحل مشاكلهم.وهناك مشاكل اقتصادية أخرى قد تؤدي الى عدم الاستقرار السياسي في الأقطارِ العربية مثل إرتفاع الأسعار والتضخم وإنخفاض الرواتب والأجور وشحة البضائع الاستهلاكية والانتاجية؛ فتقود هذه المشاكل الإقتصادية الى مشاكلٍ سياسية كالتناقض بين الاحزاب السياسية، وعدم قدرة المكونات على السيطرة على الأوضاعِ الأمنية في الداخلِ، والفشل في تقديمِ الخدماتِ للمواطنين، واضطراب الماكنة الإدارية والخدمية؛ مما يؤدي الى سيادةِ شعورٍ عام بين اوساط الاحزاب والمنظمات السياسية وافراد الشعب بضرورةِ إجراء التغيير السياسي لوضع حد لهذه الاوضاع المتدهورة، وفي كثيرٍ من الأحيانِ توكل هذه المهمة الى المؤسسةِ العسكرية. وفي كثيرٍ من الأحيان تتداخل المشاكل الاقتصادية مع المشاكل الاجتماعية الناجمة عن التعددية؛ مما يؤدي الى اضعافِ الاستقرار السياسي ومثال ذلك ما يحدث بالدولِ العربية حيث تتداخل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها بعض البلدان العربية مع المشاكل الطائفية؛ مما يؤدي الى حدوثِ اضطرابات داخلية تهدد الاستقرار السياسي في هذه الدول.
والآن وبعد أن تعرفنا على أهمِ المشاكل الاقتصادية التي تثيرها حالة التخلف، وتأثيرها فيخلق أو تصعيد ظاهرة عدم الاستقرار السياسي. ننتقلُ الى بحثِ المشاكل الناجمة عن عمليةِ القضاء على حالةِ التخلف بواسطةِ التحديث والتنمية الاقتصادية.
” مشاكل التحديث والتنمية الاقتصادية ”
لكي تستطيع الأنظمة السياسية في البلدان العربية أن تفي بوعودِها في مسألةِ القضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي؛ فلابــد لها من دعـمِ جهود التحديث والتنمية، فضلاً عن أن هذه الأنظمة لا تستطيع المحافظة على شرعِيتها إلا من خلالِ التحديث والتنمية، وبذلك ستكون أكثر استقراراً وأقلُ عرضه للعنف السياسي، وأكثر تمسكاً بالمبادئ الدستورية، فلا جدال في أن الأقطار التي تمتلك مستويات عليا من التطورِ الاقتصادي والاجتماعي تتصف بكونِها أكثر هدوءاً واستقراراً من الناحيةِ السياسيةِ، وبناءاً على هذه الحقيقة يمكن القول أن التخلف الاقتصادي والاجتماعي هو المؤول الأول عن حالةِ عدم الاستقرار السياسي في الكثيرِ من البلدان المتخلفة؛ لذلك فأن التنمية الشاملة هي السبيل المؤدي الى الاستقرار السياسي في هذه البلدان.
ومع ضرورةِ التحديث والتنمية بالنسبةِ لتحقيق الاستقرار السياسي للدول العربية فثمة آثار سلبية يمكن أن تنجم عنها قــد تؤدي الى تصعيدِ حالةِ عدم الاستقرار السياسي في هذه الدول. فالتحديث غالباً ما يؤدي الى تزايد حجم ومجالات الصراع في المجتمعِ؛ نضراً لما ينتج عنه من تغييرٍ في وضعِ الجماعات داخل الدولة. فضلاً عما يخلقه من أدوارٍ وظيفيةٍ جديدة غالباً ما تتصارع مع الأدوارِ القديمة؛ مما ينتج مشكلة تتعلق بالمؤسساتِ والأبنية اللازمة لإدارة الصراع وتنظيمه، فإذا ما نجحت هذه المؤسسات والأبنية في أداءِ وظائفها؛ فأن ذلك يمكن من منعِ الصراعات من أن تنفجر بشكلٍ يُهــدد الاستقرار السياسي، وفي حالةِ الافتقار الى مثل هذه المؤسسات وعدم فاعليتها؛ فأن ذلك يؤدي الى تحريكِ الصراعات السياسية بسرعةٍ من المصنعِ أو الجامعة أو القرية الى القوةِ السياسية.
كما أن نطاق الفساد السياسي يرتبط بشكلٍ وثيقٍ بالتحديثِ الاقتصادي والاجتماعي الذي يؤدي الى إضعافِ البيروقراطية الحكومية؛ مما يخلق مناخاً عاماً يمهــد لإسقاط الحكومة وإجراء التغييرات فيها. بالاضافهِ الى ذلك فقـد أرتبط مع التحديثِ نشوء الطبقاتِ الوسطى الجديـدة التي كان لها الدور الحاسم في الإطاحةِ بالكثيرِ من الأنظمةِ التقليدية في بلدانِ الوطن العربي، ويكون موقف هذه الطبقات تجاه الأنظمة السياسية في البلدانِ العربية مُتغيراً تبعاً لمراحل التحديث المُختلفة، فهي في البدءِ ترتبط عادة بالنظام التقليدي الذي أوجدها وتتبع قياداته، وفي مرحلةٍلاحقةٍ تضغط للسير بسرعةٍ أكبر في طريقِ التحديث ويسير النظام ورائها مع مخاوفٍ متصاعدةٍ وفي المرحلةِ الثالثة تبدأ مطاليبها تنصبُ على القيمِ الأكثر حساسية للنظام التقليدي ويتطور توتر جدي، لكن طالما يبقى النظام ناجحاً فالطبقة الوسطى موالية له أو معارضة بصمتٍ، ولكن إذا ما ظهر خلل في جهودِ التحديث أو بسببِ فشل عسكري؛ فأن عناصر مهمة من تلك الطبقات تتجه الى القوى الثورية لتساعدها في الانقضاضِ على النظام السياسي وتقويضه وهذه هي المرحلة الرابعة من العلاقةِ بين النظام السياسي وهذه الطبقة.
ومثلما للتحديث محفزات لعدم الاستقرار السياسي في البلدان العربية فأن للتنمية الاقتصادية آثار سلبية يمكن أن تؤدي الى عدم الاستقرار السياسي أيضاً. هذه الآثار يوضحها ( Huntington ) بالآتي :
1. إن التنمية الاقتصادية السريعة تؤدي الى تمزق التجمعات الاجتماعية التقليدية ( العائلة، الطبقة، الطائفة…الخ ) فهي بذلك تزيد من عددِ الأفراد ذوي المنزلة الاجتماعية المنخفضة، والذين يعيشون ظروفاً اجتماعية تساعد على حالةِ التذمر.
2. تزيد من الحركة ( التنقل ) جغرافياً مما يؤدي الى إضعاف الروابط الاجتماعية وبوجهٍ خاص تشجع الهجرة السريعة من المناطقِ الريفيةِ الى المُدن والتي تحدثُ بدورِها عزلة وتطرفاً سياسياً.
3. تخلق أشخاصاً أثرياء جُــدد غير متكيفين تماماً مع الوضعِ القائـم، إذ يطمعون بسلطةٍ سياسيةٍ ومنزلة اجتماعية تتناسب مع موقعِهم الاقتصادي الجديـد.
4. تزيد من عدد الافراد الذين يتسم مستوى معيشتهم بالهبوطِ؛ مما يؤدي الى توسيعِ الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
5. تزيد من مدخولات بعض الناس بشكلٍ مطلق وليس نسبي، وبذلك تزيد من عدم قناعتهم بالوضعِ القائم.
6. تتطلب التنمية الاقتصادية فرض قيود على الاستهلاك؛ وذلك لرفع مستوى التوظيف في رؤوس الأموال مما قــد يترتب عنه حالة من عدمِ الرضا لدى جمهور واسع من المجتمع.
7. تؤدي الى تفاقـمِ الصراعات القبلية والاقليمية حول توزيع الاستثمارات والاستهلاك.
8. تزيد من طاقاتِ التنظيمات الجماعية؛ مما يؤدي ذلك الى أن طلبات الجماعة تفرض بشكلٍ قويٍ على الحكومةِ التي لا تكون عندئـذ قادرة على تلبيتها.
وإذا نظرنا بمزيـدٍ من الإمعانِ الى هذه المشاكل يصبح من الضروري تصحيح أو تعديل الانطباع العام بأن عـدم الاستقرار السياسي منتج قانوني للعملية الإنمائية، فالحقيقة أن الاختلال في التنميةِ أو ما يمكن وصفه ” بسوءِ التنمية ” لا التنمية نفسها هو الذي يُسفر عن التوتراتِ والصراعاتِ والعنف، ويمكن تصحيح النتاجات السلبية للتنمية من خلالِ :
أ- تعزيز التعاضـد الوطني ومحاربه الفساد بالوسائلِ التي تؤدي الى القضاءِ عليه وخاصة في صفوفِ الفئة الحاكمة والاستفادة من أجهزةِ الإعلام الرسمية.
ب- تبني نظام ضرائب تصاعدي وسياسات اجتماعية أُخرى مثل توسيع نطاق التعليم العام والصحة العامة والإسكان، لا سيما للطبقات الفقيرة وبهذا فأن الفقراء حتى لو كانوا لا يستطيعون المشاركة في عمليةِ التنمية فبإمكانِهم التمتع بالعديـدِ من ثمارِها.
التعليقات