تعتبر مظاهر الانحراف الدستوري في ظل تأثر سلطة تعديل الدستوري ” السلطة التأسيسية ” بنظام الأغلبية البرلمانية، و كذا في ظل هيمنة السلطة التنفيذية على نظام الحكم في الدول المعاصرة، وقد كشفت الدراسة عن إمكانية وجود انحراف السلطة التأسيسية عن القواعد فوق الدستورية، وعن الروح العامة للدستور، فضلا عن مخالفة سلطة التعديل للقيود الشكلية و الموضوعية المتعلقة بآليات تعديل الدستور. وانتهت الدراسة إلى اقتراح معيار موضوعي لمعرفة الانحراف الدستوري، وهو معيار مخالفة السلطة التأسيسية الفرعية لروح الدستور ومقاصده العامة.
ارتبطت منذ القدم أفكار الحرية بفكرة المساواة وبفكرة المساواة فى تقديم الفرص ” تكافؤ الفرص ” ارتباطا وثيقًا، بحيث غدت كلمة “الحرية” مرادفة لكلمة المساواة، وقد جاءت الثورة الفرنسية بنظرية الحقوق الفردية التي تقوم على فكرة رئيسية مؤداها، أن للفرد حقوقًا معينة وجدت بوجوده، ونشأت له منذ ميلاده، وقد استمدت حقوق الأفراد وجودها فى البداية من القانون الطبيعي، فظلت مرتبطة به حينًا من الدهر، ثم انفصلت عنه عندما ظهرت نظرية العقد الاجتماعي التي استبدلت الحقيقة الواقعية، وهي عدم المساواة بين الأفراد بفكرة نظرية غير واقعية، وهي المساواة بين الأفراد، وذلك في المرحلة البدائية التي أطلق عليها ” رسو ” في كتابة العقد الاجتماعي ” الحالة الطبيعية” و قد انتهى الأمر بنظرية الحقوق إلى خروجها من نطاق الفلسفة إلى حيز العمل و التطبيق، إذ سجلها إعلان حقوق الإنسان الصادر فى فرنسا غداه ثورتها المشهودة التي قامت فى سنة 1789، فقد نصت المادة الأولى من الإعلان المذكور على ما يأتي: “يولد الأفراد و يعيشون أحرارًا و يتساوون في الحقوق ”
” و الغرض من قيام كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الإنسان التي لا يمكن التنازل عنها و هذه الحقوق الطبيعية لكل فرد لا تقيد، ولا تحد إلا بالقدر الضروري الذي يضمن لأفراد الجماعة الأخرين التمتع بنفس هذه الحقوق ”
سلطة التعديل الدستوري هي سلطة ذات طبيعة مختلطة، فهي سلطة تأسيسية ومؤسَسَة في الوقت ذاته، اذ انها تُعبّر عن السلطة التأسيسية الاصلية، او السلطة المهيمنة، لان قواعد التعديل تشير الى المركز النهائي للسيادة السياسية، وإذا كان الشعب يسيطر على السلطات المؤسَسَة من خلال الدستور، فأن سلطة التعديل تمثل ارادة الشعب ذاته، لأنها تمثل أعلى سلطة في حياته السياسية، وهي تجسيد لفكرة تقاسم سلطة واضع الدستور – السلطة التأسيسية- مع الأجيال القادمة، بحيث يحتفظ كل جيل بجزء من هذه السلطة التأسيسية. وإذا كان مسموحًا للشعب بإعادة صياغة دستوره، فإن تعديل الدستور، لا يختلف من حيث الاساس عن وضع الدستور، فيكون من ثم جزء من السلطة التأسيسية،
اذ يجوز للشعب -عن طريق سلطة التعديل- تغيير السلطات المؤسَسَة العادية، لأنها سلطات مقيدة بطبيعتها، لذلك تختلف سلطة التعديل عن السلطات المؤسَسَة العادية وتتفوق عليها. لذلك يجب أن تكون ذات طبيعة تأسيسية. اما الحجة الثانية التي يستند عليها هذا الاتجاه فهي حجة وظيفية، اذ تنص معظم الدساتير على إجراءات لتعديل الدستور تختلف عن الاجراءات الحاكمة للتشريعات، ويؤكد هذا التميُّز على الطابع الاستثنائي للتعديل الدستوري، فغالبًا ما تمارس سلطة التعديل من قبل هيئات منفصلة عن السلطة التشريعية العادية أو تكملها من خلال طلب استفتاء للتصديق على التعديلات، ان الاختلاف العضوي والوظيفي لسلطة التعديل الدستوري يعزز القول بأنها ليست سلطة مؤسَسَة عادية، واذا كانت السلطة التأسيسية هي مصدر إنتاج القواعد الدستورية، فإن سلطة التعديل تسهم ايضاً في إنتاج هذه القواعد، وإذا كانت السلطة التأسيسية تنتج قواعد دستورية تحكم السلطات المؤسَسَة، فإن تعديل تلك القواعد (أو إنتاج قواعد جديدة) هو ممارسة للسلطة التأسيسية استنادًا إلى التبعات القانونية لممارسة سلطة التعديل
وعلى الرغم من قوة الحجج التي استند عليها هذا الاتجاه، لكن يمكن الرد عليه انطلاقا من حججه ذاتها، فتبريره للجانب التأسيسي لسلطة التعديل الدستوري بان هذه السلطة متميزة بذاتها، اي عضويا ووظيفيا ينطوي على مغالطة وتناقض بيّن، فاذا كان معيار تمييز السلطة التأسيسية من غيرها من السلطات المؤسَسَة هو الخضوع او عدم الخضوع للدستور، فإن الادعاء بتميُّز سلطة التعديل قول مردود، لأنها تستقي مصدر تميُّزها من النص الدستوري الذي نظّم عملية التعديل الدستوري، الا يعني ذلك بان سلطة التعديل عضويا ووظيفيا قد انشأها الدستور، الا يعني ذلك انها سلطة مؤسَسَة لا تأسيسية؟.
ثم ان القول بان سلطة التعديل تسهم في انتاج القواعد الدستورية اسوة بالسلطة التأسيسية، هو قول صحيح في ظاهره لكنه تجاهل حقيقة الدور الذي تؤديه كل سلطة، صحيح إن تعديل الدستور ذو طبيعة تأسيسية، على اساس ان التعديل يؤدي إلى إنشاء المنتج القانوني نفسه، بمعنى انه ممارسة لسلطة مماثلة لتلك التي أوجدت الدستور في المقام الأول – السلطة التأسيسية-. لكن هذا الاتجاه قد تجاهل ان قيام السلطة التأسيسية بإنتاج قواعد دستورية يتصف بطابع خلاّق، اي انتاج اصيل ومتفرد للقاعدة الدستورية، بخلاف انتاج القواعد الدستورية عبر التعديل، فانه انتاج مشتق لأنه محكوم بما وضعه الدستور من قيود، اي بما وضعته السلطة التأسيسية، اي انها لا تزال تمارس اختصاصًا قانونيًا محددًا في الدستور وتخضع لقيود دستورية، لان السلطة التأسيسية هي المختصة بتحديد اختصاص سلطة التعديل، اي ان سلطة التعديل في حقيقتها اختصاص قانوني مقرر بالدستور. وحيث ان جميع السلطات مستمدة من الدستور، وجب أن تكون سلطة التعديل سلطة مؤسَسَة كبقية السلطان. ولا يمكن أن تكون بحكم الأمر الواقع سلطة تأسيسية حقيقية.
وفي الحقيقة فإننا نميل الى هذا الاتجاه، ذلك لان سلطة التعديل الدستوري تمتلك طبيعة متفردة اذا نظرنا اليها من زاوية عضوية ووظيفية، فمن حيث تكوينها فإنها تمتلك تكوينا مستقلا ومختلفا يميزها عن السلطة التأسيسية الاصلية وبقية السلطات المؤسَسَة الاخرى، ولا يقدح في ذلك اشتراك السلطة التأسيسية او السلطات المؤسَسَة الاخرى في عملية التعديل الدستوري، لأنها حين تقوم بذلك لا تعبر عن قيمة تأسيسية، بقدر ما تُعبّر عن متطلبات دستورية تحكم عملية التعديل، اذن لسلطة التعديل وجود متميز عن بقية السلطات، واذا نظرنا الى وظيفة هذه السلطة فإنها لا تخلو من طابع تأسيسي، لأنها تتناول اسمى قاعدة قانونية في الدولة، لكن تناولها لهذه القاعدة ليس مطلقا كما هو حال السلطة التأسيسية،
انما مقيد بتنظيم دستوري مسبق، لذا فهي سلطة اقل سيادة – بحكم هذا التقييد- من السلطة التأسيسية، لكنها اعلى من السلطة التشريعية العادية، لأن موضوع وظيفتها مراجعة النص الدستوري، بخلاف السلطة التشريعية التي لا تستطيع المساس بهذه النصوص لأنها سلطة مؤسَسَة بالدستور ومحددة بالتشريع العادي. وصحيح ان سلطة التعديل الدستوري تمتلك هوية متميزة وقدرة التعبير عن الارادة الشعبية، لكن تكوينها يبقى متناقض من حيث انها خليط من السلطات المؤسَسَة والسلطة التأسيسية، وهذا بدوره قد يعرض عملية التعديل الدستوري لتسلل الدوافع السياسية العادية المتناقضة مع العملية التأسيسية في حد ذاتها) (، ولا سبيل لصد هذه الدوافع السياسية الا بتقييد سلطة التعديل الدستوري، وجعل الشعب شريك فيها، كنوع من الرقابة على دوافع التعديل الدستوري.
التعليقات