يعيش كثير منا أحداث متعددة ومختلفة حزينة كانت أو سعيدة ولكنها غالبا ما تمر ويطويها الزمان وتصبح كأنها لم تحدث؛ ولكن هناك أحداث تؤثر في حاضر ومستقبل متذكرها فيظل متعلقا بها بل ويهرب إليها كلما فقد الأمل في حاضره ومستقبله فتختلط هذه الأحداث ليصبح صاحبها مشوها لا هو متأقلما مع حاضره ولا مستعدا لمستقبله ولا يستطيع أن يفارق ماضيه فيبدأ في الهروب إلى الماضي بحثا عن حاضر يمكن أن يتناغم معه أو مستقبل يمثله .
ثمة أشخاصٌ يعيشون بأجسادهم في القرن الواحد والعشرين، بينما ينتمي وعيُهم إلى قرون مضت، فالسعي لتوقيف الزمن والعيش في الماضي والهيام به لدرجة الهوس؛ في جزء منه، حالة عاطفية فردية، شخَّصها الطب الحديث كآلية دفاع لمقاومة الشعور بالانكسار، وفي جزء ليس باليسير؛ حالة تعكسُ عجزاً مؤسفاً في القدرة على عيش الحاضر، والإنجاز فيه، وتطويره والإسهام في صناعة المستقبل، ما يستدعي الهروبَ إلى الماضي تعويضاً عن بؤس الحاضر.
صحيح أن الماضي قد أسهم في صناعة الحاضر، ولا يمكن للطبيعة البشرية الانسلاخ عنه، إلا إنه شتَّان بين المقاربةِ الموضوعية والعقلانية المتفحِّصة للماضي، والناقدة له من أجل العبرة والعظةِ واستلهامِ الدروس لإثراء الحاضر وإنتاج المعرفة، وبين الهروب إلى الماضي والعيش فيه، واستدعاء الأموات من القبور والهوس بأفكارهم لتلتهم الحاضرَ وتعطِّل حركتَه، وتَشلُّ كل إمكانية لتكيُّف الإنسان مع الواقع، ومستجدات الحداثة والتأثير فيها.
الأمم الأخرى ليست بلا ماضٍ، بل لها تاريخٌ لا يقل عراقةً وريادةً وإنجازاً عن تاريخنا العربي، لكن تلك الأمم لا تُضفي التقديسَ على كل الماضي القريب والبعيد، كما نفعلُ نحن، لندفع الأجيال إلى الإحباط والتواكل، ونؤسِّسَ لثقافة “هجاء الواقع” وإدانته، فنخسر الحاضر والمستقبل معاً، ما دمنا نبني خطابنا على الماضي بدلاً من المستقبل، ونُجذِّر في الوعي الجمعي قناعةً وهوساً نفسياً بأن الحلولَ ما زالت في أيدي الأموات، وليست مسؤوليتنا نحن!
الذاكرةُ البشرية ليست تسجيلاً توثيقياً للماضي لأنها بطبيعتها انتقائية، والحنين إلى الماضي المعيش ينزع من الماضي آلامه وجراحه ومآسيه، فهو استعادةٌ للفصل الأجمل من الحكاية، وحالة ذهنية وهمية جميلة موجودة في الخيال فقط، تُصوِّر الماضي بشكلٍ لامعٍ ومبالغٍ فيه.
الأخطر من الحنين العاطفي إلى الماضي الشخصي المعيش، هو الهروب الكامل إلى الماضي غير المعيش، وتمجيد الذات وتضخيمها استناداً إلى شخصيات تاريخية، يُنسب إليها الفضل في بطولاتٍ قديمةٍ، حتى ولو صنعها السلف حقاً، فلا تجوز المتاجرة بها من قبلنا، وإعفاء أنفسنا من مسؤولية البناء على إرثها والإضافة إلى الحاضر كما فعلوا هم، لأنهم لو كانوا قد هاموا بماضيهم وكرَّسوا حياتهم لتقديسه، لما كان لنا مثل هذا التفاخر بإرثهم ومجدهم.
إنها حالة العجز التام عن صناعة حاضر مختلف، وحالة انهزام تجرنا إلى الماضي لنعيش فيه، لا لنفيد من دروسه، حالة خطرة نسترجع فيها مواضيَ متناقضة (جمع ماضٍ) على أسسٍ عرقية وقبلية ومذهبية؛ حيث تستدعي المكوناتُ السكانية المعاصرة، صُوراً عن الماضي بما يجعل مواضيها، بما تخلع عليه من قداسة، سبباً إضافياً لصراعات اجتماعية وسياسية لا نهاية لها.
من المؤسف أن حالة الهروب هذه، مُرشَّحة للاستمرار كما يبدو من المشهد العربي الحالي، وستظل مجتمعاتُنا عالقةً هناك ذاهلةً عن الحاضر، مصرةً على هزيمة المستقبل، ما دمنا نفتقر إلى الشجاعة لتحدِّي الواقع بلغته وأدواته، والتخلص من الزيف والأوهام التي تُنسج عن الماضي، والاشتباك مع الحياة كنهرٍ متدفق لا يتوقف، ولا يرجع إلى الوراء، وهنا يتلخَّص دورنا في رسم وتحسين مسارات هذا النهر، لا الجلوس على ضفافه، والتحديق في حُطام الماضي والبكاء على أطلاله.
وحدهم العرب والمسلمون يعشقون الماضي عشقاً محموماً يحوله في مخيلتهم إلى جنة الله الغابرة. كل الفرق الإسلامية بخصوماتها المتبادلة، وتناقضاتها الغريبة ترى أن العودة إلى الماضي هي طريق الخلاص من شرور الحاضر والمستقبل. شعار الإسلام هو الحل رفعه الإخوان قبل ما يقارب القرن، وصدقت عليه كل الفرق الأخرى، بما في ذلك فرق التطرف مثل القاعدة وداعش ومن على شاكلتهما. لم يسألوا أنفسهم كيف، لأن ذلك مدعاة للتفكير ومواجهة الواقع، وبالتأكيد، الخروج عن الوصفات التراثية الجاهزة. المهم لديهم هو أن العودة للماضي تعني صلاح الدين والدنيا، رغم أن أبسط قراءة للتاريخ تبين بوضوح بشاعة الاستبداد وجور السلاطين، وحجم الصراع الدموي على السلطة في الدول الإسلامية جميعها، بداية من الدولة الأموية وانتهاء بالدولة العثمانية، مروراً بالعباسيين والفاطميين والمرابطين والموحدين والحفصيين وبكل ما حفل التاريخ من ممالك وسلاطين حكموا باسم الإسلام. ولعل الاستثناء الوحيد هو دولة الرسول وخلفائه الراشدين التي لم تستمر لأكثر من أربعين عاماً. على الصعيد الليبي، يعتقد بعض الليبيين أن مشاكل ليبيا المزمنة لا يمكن حلها إلا بالعودة إلى المملكة الليبية، باعتبار أن الحركة السنوسية كان لها الدور الأكبر في حركة الجهاد وفي مرحلة تأسيس الدولة، وأنها بذلك تملك الشرعية التاريخية، التي لا يملكها غيرها في قيادة المجتمع الليبي، مثلما كانت قبل نحو قرنين من الزمن في زوايا الجبل الأخضر.
ينسى هؤلاء أن جل الليبيين اليوم ولدوا وترعرعوا في زمن غير زمن المملكة الليبية، وأنهم يطمحون إلى أنظمة حكم تتجاوز ما يستطيع النظام الملكي تقديمه، وهم يرون بأم أعينهم أن ما يعرف بالمملكة الدستورية لا وجود لها في بلاد العرب؛ فكل ممالك العرب مجرد إقطاعيات عائلية مستبدة. بل والأكثر من ذلك أن الممالك الدستورية العريقة في أوروبا أصبحت تتعرض لضغوط شعبية قوية من أجل التغيير إلى النظام الجمهوري مثل بريطانيا وإسبانيا وهولندا.
مشايعو النظام السابق الذين يعرفون أنفسهم بالخضر يصرون في أغلبيتهم الغالبة على أن أفضل طريق لحل مشاكل ليبيا المتفاقمة هو العودة إلى ما كانت عليه قبل 2011، وأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، حسب رأيهم، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق طموح الليبيين في دولة قوية متقدمة، ناسين كل تلك الإخفاقات وحالات الفشل الذريع على كل الصعد؛ السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وأن بقاء النظام السابق في السلطة لأربعين عاماً يعود بالدرجة الأولى لاستعمال منطق الجبر والعسف، وليس إجماع الشعب ورضاه.
الاخطر من الحنين العاطفي للماضي الشخصي المعاش، هو الهروب الكامل الى الماضي غير المعاش، وتمجيد الذات تمجيداً مضخماً استناداً الى شخصيات تاريخية، ينسب إليها الفضل في قصص بطولية قديمة، حتى ولو صنعها السلف حقاً ، فلا تجوز المتاجرة بها من قبل الخلف واعفاء النفس من المسؤولية في البناء على ارثها والإضافة للحاضر كما فعلوا هم ، لانهم لو هاموا بماضيهم وكرسوا حياتهم للتغني به وتقديسه لما كان لنا هذا التفاخر بإرثهم ومجدهم.
انها باختصار حالة العجز التام عن صناعة حاضر مختلف، وحالة انهزامية بامتياز تفر الى الماضي لتعيش فيه، لا لتستفيد من دروسه، حالة خطرة تسترجع فيه المكونات الوطنية مواض متناقضة (جمع ماضي) على اسس عرقية وقبلية وطائفية ومذهبية حيث تستدعى المكونات السكانية صوراً عن الماضي بما يجعل مواضيها ، بما تخلع عليه من صورة مقدسة وردية، سبباً إضافياً لصراعات اجتماعية وسياسية لا حصر لها.
من المؤسف ان حالة الهروب هذه، مرشحة للاستمرار في المشهد المحلي والعربي ، وستظل المجتمعات عالقة هناك ذاهلة عن الحاضر، مصرةً على هزيمة المستقبل، طالما أننا نفتقر للشجاعة والجراءة لتحدي الواقع بلغته وادواته والتخلص من الاوهام والزيف والتدليس والنرجسية التي تنسج عن الماضي، والاشتباك مع الحياة كنهر متدفق لا يتوقف ولا يرجع للوراء، ودورنا يختص في رسم وتحسين مسارات هذا النهر، لا الجلوس على حطام الماضي والبكاء على اطلاله.
التعليقات